القاهرة | ربما لم تشهد الحالة الفنية في مصر نموذجاً لفنان كما زكي فطين عبد الوهاب (1961 ــــ 2022) الذي خسر معركته أمس مع المرض. تميّز الراحل بأنه كان تقريباً الوحيد المتعدد المواهب من أبناء الفنانين: كتابةً، إخراجاً وتمثيلاً. ورغم أنه كان يستخدم اسمه كاملاً ـــ والجميع يعرف أنه ابن الفنانين الراحلين ليلى مراد والمخرج فطين عبد الوهاب ــــ إلا أنه لم يستغل أبداً اسم والديه لدخول الفن. تاريخ زكي فطين الفني يمكن أن ينقسم إلى مرحلتين: المرحلة الأولى التي حاول فيها تحقيق حلمه ككاتب ومخرج وظهرت من خلالها موهبته في التمثيل التي اكتشفها المعلّم الراحل يوسف شاهين. والمرحلة الثانية شهدت عودته بعد غياب سنوات عن الشاشة، ولكن الشاشة الصغيرة هذه المرة، إذ كان بمثابة اكتشاف لمخرجي الدراما. فهو ممثل قوي يمتلك مميزات وصفات نادرة، أولها أنه مثّل مرحلة عمرية معينة وهي ما بعد الأربعين (كان أصحابها قلّة على الساحة)، إلى جانب قدرته على التلون، فيقنعنا إذا قدم شخصية أحد أبناء الطبقة الراقية أو المتوسطة، أو الطيب أو الفاسد، الغني أو الفقير، المثقف النبيل أو الشرير الانتهازي. من هنا جاء الظهور التلفزيوني لموهبة استثنائية انتشرت في الكثير من المسلسلات في السنوات الماضية.
آخر الأعمال التي لعب بطولتها فيلم «العنكبوت» الذي لم يعرض بعد

أما عن المرحلة الأولى والأهم في تاريخه، فقد بدأت منذ التحاقه بمعهد السينما في مصر وتخرجه عام 1983. اختار وقتها أن يدرس الإخراج السينمائي. وقبل أن ينتهي من دراسته، كان قد بدأ في مساعدة كبار المخرجين في عدد من أهم أفلام تلك الفترة مثل «أهل القمة» (1981 ـ إخراج علي بدرخان)، «شوارع من نار» (1984 ـ إخراج سمير سيف). وتأتي النقلة الأولى في حياته بمساعدته المخرج يوسف شاهين في فيلم «اليوم السادس» (1986) الذي اكتشف من خلاله شاهين موهبة زكي في التمثيل، فأسند إليه دوراً صغيراً، عبارة عن لقطة واحدة يؤدي فيها زكي شخصية أرستقراطي متغطرس لا ينطق كلمة واحدة. فقط يمنح نظرته للشاشة التي تكتب عليها كلمة النهاية. ربما كانت تلك اللقطة سبباً جعلت المخرج يسري نصر الله يسند له دوراً مشابهاً ولكن بمساحة أكبر هو دور الباشا في باكورة نصر الله «سرقات صيفية» (1988).
من هنا انطلق زكي عبد الوهاب ليمثل بشكل محدود، مع مخرجين تنتمي أفلامهم لما يمكن أن يطلق عليه الأفلام «الفنية». بعدها أسند يوسف شاهين لزكي دوراً رئيسياً شديد الأهمية في فيلمه «إسكندرية كمان وكمان» (1990). هنا، أدّى زكي شخصية «جندي» مساعد المخرج يحيى بأداء يوسف شاهين نفسه. كان أداء زكي شديد البساطة والمرونة، فبدا كأنه لا يمثل، يبتعد تماماً عن أي انفعالات أو ردود فعل مبالغ فيها، ويضفي على الشخصية لمحة ساخرة. تأكّد الجميع هنا أنّ هذا الممثل لا يشبه سوى نفسه، وأنه صاحب مدرسة جديدة في الأداء شديد الصدق والواقعية والبساطة. ومرة ثانية، تأتي لزكي فرصة أكبر عن كل ما سبق: بطولة مطلقة وشخصية رئيسية في فيلم «مرسيدس» (1993 ــ إخراج يسري نصر الله) أيضاً. «نوبي» في الفيلم بطل يعيش ألف حكاية، يمتلئ بالتفاصيل والتناقضات، بينه وبين الجنون خيط رفيع قد يُقطع في أي لحظة، فيمكنك أن تراه كما تشاء مجنوناً تماماً أو العاقل الوحيد وسط حفنة من المجانين. وبأداء شديد العمق والعذوبة والبساطة، تمكن زكي فطين بموهبة تمثيلية غير عادية من إيصال كل مشاعر وأفكار وأزمات «نوبي»، من دون انفعالات، ولا صراخ، ولا مبالغة.
ورغم تميز زكي ونجاحه في التمثيل، إلا أنه حاول أن يحقق حلمه الرئيسي في الكتابة والإخراج، فاختار موضوعاً شائكاً عن شبان وسط البلد في القاهرة الذين يعيشون كما لو كانوا «جواري» للسائحات الكبيرات. الشباب «الخرتيه» كما يطلق عليهم، يساعدون السائحات ويتجولون معهن ويقيمون معهن علاقات جنسية. مزج الفيلم مع تلك الفكرة جزءاً بسيطاً من سيرة زكي الذاتية واختار ممدوح عبد العليم لأداء شخصيته الحقيقية كمخرج وكاتب سيناريو يحاول صناعة فيلم عن هذا الموضوع. طبعاً حلم «رومانتيكا» (1996) اصطدم بواقع شديد المرارة في ما يتعلق بالرقابة والإنتاج و«الإساءة لسمعة مصر»، وغيرها من الأمور التي نجحت في وأد حلم زكي فطين في مجالي الكتابة والإخراج.
من هنا، عاد إلى التمثيل ملقياً وراء ظهره حلمه الحقيقي، وممتثلاً لما اختاره له كل من حوله سواء في الوسط الفني، أو النقاد، أو الجمهور، أو بالأصح الحياة. عاد إلى الساحة الفنية بعد غياب أربع سنوات ممثلاً في عدد من الأفلام الهامة منها «المدينة» (2000)، «سكوت هنصور» (2001)، «العنف والسخرية» (2003)، و«بحب السيما» (2004)، ليختفي مرة ثانية ويعود بعد ست سنوات بشكل مختلف تماماً.
اتُهم فيلمه الأول كمخرج وكاتب بـ «الإساءة إلى سمعة مصر»!


العودة هنا كانت بداية المرحلة الثانية في حياة زكي فطين: ممثل محترف، يقدم أدواراً متعددة في السينما والتلفزيون. الاختيارات المتتالية لشخصيات متشابهة توضح لنا أنه ترك يديه وساقيه كي تسحبهما الرياح كيفما تشاء، واستسلم لفكر المخرجين والمنتجين ليحصروه في الشخصية نفسها. انساق زكي وظل يمثل بالأسلوب والبساطة والسلاسة التي صار عليها في أفلامه الأولى والمهمة. لم يعبأ كثيراً بتغيير أسلوبه كممثل من أجل الشاشة الصغيرة المحدودة. أجبرها أن تتقبل أداءه وتخضع لسيطرته من دون أن يستحيل واحداً من أتباعها. ولأن الجمهور صدقه واقتنع به وأحبه، فقد ضمن الاستمرارية، وهذا بالفعل ما حدث منذ عام 2010 في مسلسلي «ريش نعام» للمخرج خيري بشارة و«أهل كايرو» لمحمد علي مروراً بحوالي 30 مسلسلاً وعشرة أفلام قدمها في غضون 11 عاماً. آخر أعماله التلفزيونية كان مسلسلا «كوفيد 25»، و«بين السما والأرض» في رمضان الماضي، وعلى شاشة السينما لم يعرض بعد آخر أعماله وهو فيلم «العنكبوت».
خسارة زكي فطين عبد الوهاب الذي أنهكه المرض في السنوات الأخيرة سنشعر بها كلما مر من أمامنا ممثل يبالغ في أدائه، أو آخر يفعل المستحيل كي يقنعنا بشخصية تشبه الشخصيات التي كان زكي يقدّمها. سنتذكر حينها ذاك الممثل الذي عبر من هنا وأبداً لم يرهقنا كي نصدقه. سنتذكر حينها هذا الفنان غير العادي الذي جاء في زمن أقل من العادي.