القاهرة | لم يمضِ عام 2021 إلا وقد أطفأ معه إحدى شموع التنوير في الثقافة المصرية. رحل الناقد والمفكر جابر عصفور (1944 - 2021) عن عمر ناهز الـ77 بعد صراع مع المرض؛ تاركاً خلفه مسيرة طويلة من الاشتباك مع الواقع الثقافي والاجتماعي العربي بدراسات نقدية في التراث، وآراء لطالما أثارت الجدل... هو الذي اعتاد أن يُلقي أحجاره في مياه الثقافة الراكدة.
رفع شعار تجديد الخطاب الديني، وإرساء قواعد مدنيّة في إدارة الدولة

في ليلة رأس السنة، تحوّلت حسابات المثقّفين العرب على وسائل التواصل الاجتماعي إلى ما يُشبه سرادق عزاء كبيراً. كتب وزير الثقافة المصري الأسبق عماد أبو غازي على صفحته على فايسبوك عن علاقته بالراحل: «اللقاء الأول الحقيقي الذي تعارفنا فيه كان عام 1988 عندما عملت معه في الاحتفال بمناسبتَين كبيرتَين: الأولى مئوية طه حسين، والثانية حصول نجيب محفوظ على جائزة «نوبل» في الأدب. من يومها، لم تنقطع الصلة، التي تحولت من علاقة عمل وتعلّم من الأستاذ إلى صداقة ومودّة. واليوم أودّع الدكتور جابر عصفور الأستاذ والمعلم والناقد والمفكر ومشيّد الصروح الثقافية، لكن قبل ذلك وبعده أودّع جابر عصفور الصديق والإنسان». كان عصفور نموذجاً للمثقّف المتشابك مع قضايا مجتمعه. حمل على عاتقه مواجهة الرجعية ورفع شعار تجديد الخطاب الديني، وإرساء قواعد مدنيّة في إدارة الدولة منذ سنوات طويلة خاض خلالها الكثير من المعارك، أبرزها أخيراً اعتراضه على المادة الثانية في الدستور المصري التي تنصّ على أنّ «الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع». أوضح حينها أنّ تلك المادة تتنافى مع قواعد المواطنة السليمة، ولم تكن موجودة قبل ذلك، بل أُدرجت للمرة الأولى في دستور عام 1923. مواقف أثارت جدلاً واسعاً، كما خاض على صفحات كبريات المجلات والصحف المصرية والعربية معارك ضارية ضد قوى الظلام في المنطقة العربية. برحيل عصفور، يفقد الوسط الثقافي المصري عضواً آخر من شلّة «المحلة الأدبية»؛ الجماعة الأدبية التي خرجت من مدينة المحلة الكبرى في دلتا مصر، بعدما فقدنا منها حتى الآن: نصر حامد أبو زيد، الشاعر محمد صالح، القاص سعيد الكفراوي، وجابر عصفور. كان الأخير أول من انتقل من شلة المحلة إلى القاهرة حيث حصل على ليسانس من قسم اللغة العربية في كلية الآداب في «جامعة القاهرة» (1965). استكمل دراسته العليا بالحصول على الماجستير (1969) والدكتوراه (1973) من الجامعة نفسها؛ قبل أن يعمل أستاذاً زائراً في عدد من الجامعات العربية والأجنبية، منها: جامعة «استوكهولم» في السويد، وجامعتَا «وسكونسن» و«هارفارد» في الولايات المتحدة. بين أروقة الجامعة وصفحات الجرائد، لعب عصفور دوراً مؤسسياً هاماً في الثقافة المصرية. أسّس «المركز القومي للترجمة» (2006) بمبادرة شخصية منه عندما كان أمين عام «المجلس الأعلى للثقافة». اعتُبر «المركز القومي للترجمة» أحد المشاريع الهامة والمؤثرة، إذ وجّه عصفور وقتها تلامذته وزملاءه لاقتحام ترجمة العلوم الإنسانية والطبيعية على نحو غير مسبوق، ما أحدث طفرةً كبيرةً في العناوين المترجمة. وكانت قضية التنوير حاضرةً أيضاً خلال بناء ذلك الصرح الثقافي، إذ حاول عصفور أن ينقل إلى العربية معظم الكتابات في هذا الإطار خلال المرحلة الأولى من المشروع، ونجح في ربط برامج الترجمة ببقية أنشطة «المجلس الأعلى للثقافة». خلال مسيرته، تولّى عصفور عدداً من المناصب القيادية في العمل الثقافي؛ فعُهدت إليه وزارة الثقافة مرتين بعد «ثورة 25 يناير»؛ لكنّه سرعان ما قدّم استقالته في المرة الأولى لأسباب صحية وسياسية وفق ما أعلن وقتها، فيما تولى المنصب مرة أخرى في 2014. عصفور الذي حصل خلال مسيرته على عدد كبير من الجوائز المصرية والعربية آخرها «جائزة النيل» قبل عامين، تركَ ما يقرب من 20 كتاباً بين الترجمة والتأليف أبرزها: «زمن الرواية» (1999) الذي اعتبر فيه أن الرواية ستكون «ديوان العرب الجديد» ما أثار جدلاً وقتها؛ إلى جانب «مفهوم الشعر: دراسة في التراث النقدي» (1978)، و«المرايا المتجاورة: دراسة في نقد طه حسين» (1983) و«دفاعاً عن التنوير» (1993)، و«قاطرة التقدُّم: الترجمة ومجتمع المعرفة» (2019)، فيما ترجم: «اتجاهات النقد المعاصر» (2002)، «النظرية الأدبية المعاصرة» (1991)، «عصر البنيوية من ليفي شتراوس إلى فوكو» (1985)، و«الماركسية والنقد الأدبي» (1986). وفي البحوث و الدراسات، أصدر «نظرية الفن عند الفارابي»، «نقاد نجيب محفوظ»، «شعراء السبعينيات في مصر»، «قراءة أولية في أدونيس» وغيرها... على الجانب الآخر، كان عصفور محل انتقاد الكثير من المثقّفين، خصوصاً لناحية علاقته بالسلطة إبان عهد حسني مبارك.