لا يأتيك الناعي إلا بما يُكدّر الخاطر ويُوجِعُ القلب. يَنقَضُّ عليك بأخبار الموت والفوت عبر الأثير فيدلفُ الحزن إلى أعماقك. يستلُّ الدمعَ من عينيك، ويسلبُكَ الفرحةَ، ويؤرّق ليلَك، ويُوقِرُ في نفسك الحزن. فيخفق قلبُك بالرهبة، ويتلبّسك ألَمُ الفراق، ويغوص الغمّ في حنايا صدرك، ويغصّ حلقك بمرارة الشجى، وأنت تستكين لمشيئة القدر، وتستجمع من دفاتر الذاكرة صوراً وآثاراً لمودة وصداقة، وتلوذ بباحة الحنين إلى أيام أشرقت بنور الأمل. وُرِي الجمعة في مقبرة «كاربندرز بارك» في لندن جثمان الصحافي اللبناني الراحل يوسف محمد خازم الذي غادرنا إلى دار البقاء إثر صراع مع مرض عضال داهمه قبل ثلاث سنوات وهو في ذروة عطائه المهني. كان الراحل، الذي عرفته صديقاً ورفيق درب أثناء عملي الصحافي في «بي. بي. سي» في لندن بين عامي 2002 و2007، قد اختطّ لنفسه مسيرة مهنيّة تنبض بالحيوية وحافلة بالإنجازات في الحقل الإعلامي حيث عمل صحافياً وباحثاً ومستشاراً إعلامياً وشارك في تأسيس وتطوير العديد من المؤسسات الإعلامية. من جريدة «السفير» البيروتية، صوت الذين لا صوت لهم، حيث عمل في تغطية الشؤون العربية، كانت انطلاقة يوسف خازم، الحائز البكالوريوس في المعلومات والتوثيق من كلية الإعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية، في مهنة المتاعب والمصاعب في مطلع الثمانينيات، قبل أن ينتقل إلى بريطانيا حيث تابع تحصيله العلمي العالي وحاز الماجستير في الاتصال الجماهيري من جامعة «ليستر» البريطانية عام 1986. كان يوسف خازم عضواً فاعلاً في الفريق الذي سهر على إعادة إصدار صحيفة «الحياة» اللبنانية في لندن عام 1988 بعد احتجابها عن الصدور عام 1976 في خضم جولات الاقتتال التي شهدتها الحرب الأهلية اللبنانية. وبعد مغادرته «الحياة» عام 2004، عمل لسنتين في صحيفة «الشرق الأوسط»، قبل أن يعمل كمستشار إعلامي مستقل تعاقدَ مع مؤسسات إعلامية عربية ودولية عدة، من بينها «بي. بي. سي. وورلد سيرفيس ترست»، و«المجلس الثقافي البريطاني»، و«إنترنيوز يوروب»، و«المعهد السويدي لتدريب الصحافيين»، منفذاً لحسابها مشاريع في دول عديدة حول العالم، منها لبنان وسوريا والأردن والسعودية ومصر والسودان وليبيا والمغرب وأوغندا وبريطانيا. كما عمل مع صحيفتي «الوطن» و«عرب نيوز» في جدة.تميّز الراحل بمناقبية عالية ومهنية رفيعة في العمل الصحافي، وترك بصماته في كل مكان عمل فيه، من خلال أفكاره وجهوده التطويرية في تلك المؤسسات. وتمتّع في تغطياته الميدانية بقدرة على أن يلحظ جوانب من الحدث تفتح آفاقاً جديدة أمام قراءة خلفياته وأبعاده، كل ذلك بأسلوب سهل وشيّق وممتع وبعيد عن التعقيد.
وإلى جدارته المهنية في العمل الصحافي، اتّسم يوسف خازم، على المستوى الشخصي، بدماثة الخُلق، والتواضع، ورقّة الطبع، ورحابة الصدر، وقدرة استثنائية على كسب قلوب عارفيه على اختلاف مشاربهم، ما أكسبه احترامَ ومودّةَ وإعجابَ كلّ الذين عملوا معه وعرفوه عن كثب في وسط مهنيٍّ يضجُّ بتضخّم الذات والاعتداد بالنفس، وحوّله المال المُسَيَّس إلى ساحة مثقلة بالخصومات والعداوات والاصطفافات الحادة. بالنسبة لنا، نحن محبيه وأصدقاءه، لم يكن يوسف خازم صديقاً عادياً، بل كان شخصية استثنائية من نواحٍ عديدة. كان، بطوله الفارع وقامته المديدة ومنكبيه العريضين، يتسلّل إلى القلب بدون استئذان، بهدوئه، ورزانته، وعذوبة حديثه، وبسمته التي لا تفارق وجهه، وهمّته الشغوفة بالعطاء والمساعدة، وفيض المحبة والحنوّ المتفجر من حوله، وثقته بالنفس التي لا يشوبها تكبّر ولا تعجرُف.
في عالم الصحافة، تتجلّى المناقبيّة المهنيّة بأبهى صورها أثناء التغطية الميدانيّة للحروب والصراعات. فهذه مهمّة لا تحتاج فقط إلى مِراس مهني وعين مفتوحة على الحدث وما وراء الحدث، بل إلى أعصاب فولاذية أيضاً، وإرادة صلبة، وقدرة على تحمّل المخاطر، واستيعاب الانتكاسات، وتلقّي الصدمات من قبيل مشاهدة مشاهد مروّعة أو خسارة أو اختطاف أو إصابة أصدقاء أو زملاء في العمل، ومواصلة التغطية على الرغم من ذلك كله بدقة وموضوعية وإنصاف وأمانة وحياد وتوازن. كان يوسف خازم، بهدوئه الذي يشيع الطمأنينة من حوله، بمستوى هذا التحدّي. كان يحمل في جعبته تجربة غنيّة امتدت لسنوات في العمل الصحافي الميداني أخذته إلى أكثر من 16 بلداً حول العالم، من بينها تغطياته لحروب وصراعات وكوارث طبيعية في أفريقيا، خصوصاً القرن الأفريقي، ما منحه صلابة عود جعلت منه ملاذاً ورمزاً أبوياً لمن يعملون معه. بعد مغادرتي «بي. بي. سي» في صيف عام 2007 شادّاً الرحال في مسيرة مهنية مختلفة أخذتني إلى عدة دول أدمنت الحروب والصراعات، من بينها دول أفريقية، لم تنقطع صلتي بالراحل. واستفدت كثيراً من حواراتي معه حول تفاصيل وشؤون الأزمات التي تعصف بدول القارة السمراء. كان معيناً لا ينضب من المعلومات حول قبائل أفريقيا وجماعاتها العرقية، وصراعاتها، وأزماتها ومشاكلها المستعصية. وكانت لديه قدرة قلّ نظيرها على إيصال كنوز المعلومات تلك بيسر وسلاسة. كان يوسف خازم سبّاقاً ومبادراً إلى التواصل مع أصدقائه. في عام 2017، عندما نشر كتابه عن الشهيد عبد الكريم الخليل، «عبد الكريم الخليل: مشعل العرب الأول، 1884-1915» الصادر عن «دار الفارابي» في بيروت، اتصل بي ليخبرني بأنّ نسختي جاهزة وسألني عن كيفية إيصالها لي وأنا الرحّالة الذي لا يعرف مقرّاً له ولا مُستَقَرَّاً. كنت يومها في الصومال، فاتفقنا على أن يسلّمها إلى الراحل والدي في برج البراجنة الذي كنت أزوره باستمرار. وبالفعل، فإنه سلّمه نسختي، التي صدّرها بإهداء لافت، وقرأتها بشغف وإعجاب شديدين لاحقاً، في اليوم نفسه الذي أقيم فيه احتفال إطلاق وتوقيع الكتاب في ساحة الشهداء في وسط بيروت في 6 أيار 2017.
لم تُمهِله الأقدار طويلاً بعد صدور كتابه قبل أن يلمَّ به المرض. في لقائي الأخير به أثناء زيارة لي إلى لندن، في حزيران (يونيو) 2018، أخبرني يوسف خازم بشكل عابر أنّه يجري بعض الفحوصات الطبية الضرورية، ثمّ استغرقنا في الحديث عن أخبار الصومال ومآزقه المستعصية التي لا تفارقه، قبل أن يوصلني بسيارته إلى محطة القطار، حيث كان الوداع الأخير.
علمت لاحقاً أنَّ مرضَه العُضال كان قد استفحل بخبث وصمت قبل أن يطلَّ عليه برأسه الخبيث، وأنّ الأطبّاء الأخصّائيين قد أمهلوه ثلاث سنوات، بقينا خلالها على تواصل مستمر. في 6 أيلول (سبتمبر) الجاري، تلقَّيْت منه رسالة تبيّن لي بعدها بأيام أنها كانت وداعية. لم يشأ يوسف أن يغادر هذه الدنيا قبل أن يودّع أصدقاءه. كتب لي يقول: «أرى عناوين كتبك ومقالاتك الغزيرة بما يشدّني وأيّ قارئ للقفز إلى داخل الموبايل والمباشرة بالاستمتاع والقراءة. للأسف لا أستطيع لأنّ حالي الصحية تزداد سوءاً وأنا أزداد ألماً وحزناً لابتعادي عن ما تكتبه يا صديقي العزيز. وفّقك الله في كلّ أعمالك بإذن الله». كان ذلك قبل تسعة أيام من إطفاء المرضِ مشعلَ الحياة في يد مؤلّف «مشعل العرب الأول»، ليغادر يوسف خازم أوجاع الجسد والروح، تاركاً لنا إرثاً من الإبداع المهني والمحبة والوفاء والذكر الطيب.