رحيل مفجع آخر يطاول المشهد الثقافي، المسرحي والسينمائي تحديداً، في لبنان. ليس فقط لأن الممثل المميّز رفيق نجم (1952 ــــ 2019) انسحب قبل أوانه بكثير، بل ما فعله ليس سوى تكريس انسحابه السابق على موته، والمفعم بالمرارة وبإحساس الفشل واللاجدوى. مات رفيق بعيداً عن الأضواء، فهو لم يقف على الخشبة أو أمام الكاميرا منذ دهر. مات منسياً من الجمهور العريض، منزوياً وصامتاً ومقهوراً، وهذا هو الأكثر إيلاماً. إنّه من هذا الجيل الذي طبع مرحلة خاصة جدّاً في بيروت الحرب الأهليّة، تلك السنوات التي شهدت صعود تجارب محوريّة، وولادة أعمال تأسيسيّة ما زالت من العلامات المضيئة في الحركة الثقافيّة. سنوات مارون بغدادي وبرهان علويّة ورندا الشهال وجوسلين صعب، سنوات يعقوب الشدراوي وروجيه عساف، سنوات زياد الرحباني بمسرحه واسكتشاته وأغنياته العابرة للخنادق والمتاريس. رفيق نجم الذي أعاد اكتشافه الجمهور في الأعوام القليلة الماضية، حين أطلق إيلي خوري وشركة MMedia تسجيلاً مرمماً لمسرحية زياد الرحباني الأسطوريّة «بالنسبة لبكرا شو؟»، صعد في تلك المناخات الاستثنائيّة… وقد بقي في وجداننا وذاكرتنا مقترناً بتلك المرحلة.لكن الزمن الجميل انحسر، والنهضة الثقافيّة والسياسيّة تركت مكانها، في بيروت، لانحطاط مديد. وأعلن الممثل القطيعة مع زمن لا يفهمه، ولا يتقن لغته. صفق الباب خلفه ومضى، بالطريقة التراجيديّة نفسها التي اعتمدها، قبل أقل من عام، شريكه في تلك التجارب المضيئة، المسرحي اللبناني زياد أبو عبسي (1956 ـــــ 2018). كلاهما انطفأ وحيداً في منزله. أصيب رفيق أمس الاثنين، بسكتة قلبية في منزله في الرملية (قضاء عاليه). تاركاً لنا ألبوم الصور والذكريات الذي يحكي عن جيل برز في أواخر السبعينيات، وانحسر في زمن السلم الأهلي الكاذب، تحت راية الحريريّة. جيل أنجبته الحرب ووأده «الطائف»!.
كان رفيق في الخامسة والعشرين حين مثّل للمرّة الأولى مع زياد الرحباني في «بالنسبة لبكرا شو» (1978)، إلى جانب فائق حميصي ونبيلة زيتونة وجوزيف صقر… حين نستعيد المسرحيّة اليوم، أوّل ما يحضرنا هو صوت «نجيب» الغاضب والهازئ، في صخب «ساندي سناك»، البار العتيد الذي شكّل مجازاً رؤيوياً عن بلد بلا أفق وبلا مستقبل.. في العام 1980، شارك في مسرحية «فيلم أميركي طويل» إلى جانب زياد أبو عبسي وجوزف صقر وكارمن لبّس وتوفيق فروخ وسامي حواط ومحمد كلش وبطرس فرح وبيار جامجيان… لعب دور «الأستاذ عبد الأمير»، كاريكاتور المثقف الأكاديمي الذي يريد أن يكشف «المؤامرة» وينجز كتابه عن الحرب؟
ترك رفيق أيضاً بصمته على أفلام تلك الحقبة. نذكر طبعاً فيلم مارون بغدادي «لبنان بلد العسل والبخور» (1988)، وفيه جسّد شخصيّة حسن المسلح الميليشيوي القاسي والساخر والطيب القلب، دليلنا إلى يوميات الحرب في بيروت. وتعاون مع المخرج برهان علوية في تحفته «بيروت اللقاء» (سيناريو وحوار أحمد بيضون ــــ 1981). ولم يتعال عمّا يسمّيه بعضهم السينما «الشعبية» أو «التجاريّة» أو «الأكشن»، وبعضهم الآخر «سينما التييرسو». فقد أطلّ في معظم أفلام سمير الغصيني، «لعبة النساء» (1982) إلى جانب هويدا وشوقي متى، و«المغامرون» (1981) مع أحمد الزين ومادونا وميشال تابت، و«نساء في خطر» (1981) مع أنطوان كرباج وفؤاد شرف الدين وإبراهيم مرعشلي، و«حسناء وعمالقة» (1981) مع فؤاد شرف الدين وهويدا وحكمت وهبي.
آخر إطلالة لرفيق نجم، تعود إلى منتصف التسعينيات. كان عنوان المسرحية «شي بيشبه الوضع»، وشارك فيها طارق تميم، وعادل كرم، ورولا شامية، وعباس شاهين، وزياد أبو عبسي. بعدها لم يذكره الاعلام ولم نره في دائرة الضوء التي لا يهجرها الممثل إلا مكرهاً. فقد مكانه وصورته ودوره. نسي نصّه، أو أن عبثيّة الدور كانت تقتضي الامّحاء. حين لمحناه في افتتاح فيلم «بالنسبة لبكرا شو؟» (2016)، لم نمتلك الجرأة الكافية لنسأله من أي كهف يخرج؟ ربع قرن من الصمت والعزلة، ولم يسأل أحد! بعض القصص من الأفضل أن تنتهي في الظلمة.

* يصلى على جثمانه في الثالثة من بعد ظهر غد الأربعاء في قاعة دار الرملية، وتقبل التعازي بعد الدفن ويومي السبت والأحد المقبلين (من الثانية حتى السابعة مساء) في قاعة دار الرملية.