تأخّر الفنان زياد الرحباني ليقصد سوريا ويقيم حفلة على أرضها وأمام ناسها المحبّين والمتابعين والصادقين. تأخّر أكثر في القيام بالخطوة ذاتها نحو مصر. أولى حفلاته في سوريا حصلت عام 2008 ضمن احتفالية «دمشق عاصمة الثقافة العربية». ثم تكرّر الأمر في السنة التالية وكان مقرّراً أن تصبح الزيارة إلى الشام سنوية، بعد بدء التحضيرات لحفلاتٍ في عام 2010، لكن العمل عليها عُلِّق لأسباب صحية، قبل أن يأتي عام 2011 ويحلّ معه واقعاً جديداً على العالم العربي، ويتحوّل في سوريا إلى كارثة. حفلات دمشق 2010 كانت مقرّرة في الصيف. قبلها، في ربيع 2010، وقبل الوعكة الصحية، حلّ زياد الرحباني للمرّة الأولى في مسيرته ضيفاً على القاهرة، لتقديم حفلة واحدة في «ساقية الصاوي». موسيقياً، عمل زياد على هذه الخطوة بجديته المعهودة، وقدّم برنامجاً يليق بالجمهور المصري الجدّي والعريق، لكن التنظيم لم يكن على مستوى التوقعات. عام 2013، بعد خلع الرئيس الأسبق حسني مبارك ووصول محمد مرسي والإخوان إلى الحكم، دُعِيَ الرجل مرة ثانية إلى القاهرة. فور شيوع الخبر، علت الأصوات المهدّدة بإفشال الحفلة بالقوة. ورغم جدّية التهديدات وخطورتها في بلد طالع من تحولات كبيرة ولم ترسُ فيه الأوضاع بعد على شيء من الطمأنينة الأمنية والسياسية، لبّى زياد الدعوة وأقام حفلة العمر في الهواء الطلق، في حديقة الأزهر الشاسعة أمام آلاف المحتشدين. لم يعكّر فرح الجمهور وتفاعله الحماسي أي حادثة، لكن التدابير الأمنية كانت ضرورية، إلى درجة أنه فُرِضَ على زياد سبعة مرافقين (على الأقل) من النوع الشديد اللطافة في التعامل وتعابير الوجه، والفائق الوهرة في البنية الجسدية والحضور. يكفي أن يتحلّقوا حول الشخص ليشعر أن غارة جوية لن تطاله. هذا الأمان لم يُوَفَّر على المسرح وخلال التمارين في الاستوديو وفي الحديقة، حيث عرّض زياد حياته لخطر شديد وسهل، لكنه تصرّف كأنه في بيته، وكان أهدأ من العادة حتى، وراح يلعب شوبان وموزار على البيانو، في انتظار وصول الفرقة قبل الحفلة بساعات. السبت الماضي، وصل زياد الرحباني إلى القاهرة، تحضيراً لحفلة وحيدة تقام الليلة في «قاعة المنارة» في التجمّع الخامس. خمس سنوات وبضعة أشهر... غياب طويل نسبياً، لكن الظروف حكمت، ولم تسمح بهذه الزيارة قبل ذلك. البرنامج شديد الدسامة، فالفرقة كبيرة، والموسيقيون محترفون (معظمهم من مصر بالإضافة إلى سوريا ولبنان) وقائد الأوركسترا، المايسترو الصاعد جورج قُلْتَة، يبدو الشخص المناسب في المكان المناسب لأنه قريب من الريبرتوارَين الكلاسيكي الغربي والشعبي العربي، وهذا ضروري لإدراج مقطوعات ما مرّة فكّر الرحباني بالمخاطرة بها في أداء حيّ (موسيقى أوركسترالية ذات نفس نيو كلاسيكي أو معاصر). لناحية الغناء المنفرد، الأسماء مصرية يُتّكَل عليها في الأمانة كما في التصرّف، ونقصد، بدايةً شيرين عبده وحازم شاهين، اللذين سبق أن غنّيا مع زياد في الحفلات (شيرين في لبنان وحازم في مصر ولبنان). يضاف إليهما الفنانة الشابة دعاء السباعي (ستار أكاديمي — 10) التي لا نعرف عنها الكثير، لكن ما نعرفه، قلباً (أداءً) وقالباً (حضوراً)، يجعلنا ننتظر مساهمتها المرتقبة في الحفلة بحماس.
اليوم، تسبق مصر سوريا بزيارة واحدة، بعدما تعادلتا لأكثر من خمس سنوات. ثلاث زيارات للمحروسة مقابل اثنتين للجارة القريبة… كتب سعيد عقل وغنّت فيروز: «طابتِ الذكرى فَمَنْ رَاجِعٌ/ بي كما العودُ إلى الطربِ؟/ شـامُ أهلوكِ إذا همْ على/ نُـوَبٍ، قلبي على نُـوَبِ».