باريس | هالة من الشعر الأبيض، وعينان صافيتان تنظران للحاضر كما للماضي بنظرة ثاقبة، محملة بمعرفة موسوعية. تلك هي الصورة التي سنحتفظ بها عن تزفيتان تودوروف، الذي تنعيه الصحافة الفرنسية بصفته "مؤرخ الأفكار"، لكن مسيرته تجعل من وضعه في خانة دون أخرى أمراً ليس بالهين.
لمن يريد التعرف على أعمال تودوروف سبل كثيرة، بعضها متشعب. ولأن الزاوية شخصية (إن لم تكن الأكثر صحة، فهي على الأقل الأكثر مصداقية)، اخترتُ أن يكون أول كلامي عن تودوروف أدبيا بحتا. فمن كان له حسن الحظ (أو سوءه؟) لأن يختار لنفسه منهجا أدبيا، لابد وأن يكون قد مرّ بتودوروف ككاتب وناشر.
أصوله البلغارية (فهو من مواليد صوفيا سنة 1939)، وتداوله على مدرسة روسية في صغره، جعلاه يتقن لغة دوستويوفسكي ويتعرف على قسم من الأدب الروسي يجهله الغرب، وساهم في ما بعد في ترجمته والتعريف به. ولعبت اللغة الروسية دوراً مهماً في اقترابه من دائرة "الشكلانية" الروسية (formalisme) وفي ترجمته لعدد من كتابها. وقد بدأ انتشار هذا التيار النقدي في فرنسا خلال الستينيات، لاسيما بفضل الترجمة الفرنسية لكتاب رومان ياكوبسون ــ أحد أساتذة تودوروف ــ "مقال عن اللسانيات العامة" (Essai de linguistique générale) في 1963، أي في السنة التي حط فيها تودوروف الرحال في باريس، ثم كان أول كتاب لتودوروف تحت عنوان "نظرية الأدب" (Théorie de la littérature) سنة 1965. وإن بدا حديثنا نظريا للغاية، فإن تداعيات هذا الاتجاه النقدي كانت جوهرية على الساحة الأدبية والفكرية الفرنسية، إذ ولدت من رحم "الشكلانية" الروسية مدرسة "البنيوية" (structuralisme) التي وسعت الدائرة النقدية وآليات المدرسة الشكلانية ــ التي تستعمل تقنيات اللسانيات لتحليل النصوص الأدبية كبنية مستقلة بغض النظر عن سياق إنتاجها التاريخي والاجتماعي والسياسي ــ لتشمل مجال العلوم الاجتماعية والإنسانيات عموماً، ولتساهم في إعلان وفاة الأدب الملتزم والذاتية الأدبية (subjectivité littéraire). وقد اقترن اسم تودوروف أكثر بالبنيوية عندما قدّم أطروحته تحت إدارة رولان بارت.
لكن بداية تأثير تودوروف الحقيقي على الساحة النقدية الأدبية كان سنة 1970 عندما أسس مع رفيق دربه جيرار جينات مجلة Poétique ــ التي ستصبح في ما بعد عنوان سلسلة ــ من إصدار إحدى أشهر دور النشر الفرنسية Seuils، والتي كان لها أثر كبير في مجال النظريات والنقد الأدبي، على غرار مجلة Tel Quel.
في هذا الإطار، اهتم تودوروف كثيراً بإشكالية الأنواع والكتابات الأدبية، لاسيما الأدب العجائبي (littérature fantastique) الذي كتب فيه تودوروف مدخلا يعدّ إلى اليوم من أجمل الأعمال وأكملها حول هذا الصنف الأدبي، من دون أن يصرفه ذلك عن أنواع أدبية مختلفة تماما مثل أدب فلاسفة الأنوار ــ وتحديدا روسو ــ الذي كان له دور كبير في بناء علاقته مع فرنسا. ولعلّ رفضه أن يحصر نفسه في اختصاص ما، هو اختصاص تودوروف الحقيقي.
من حسن الحظ كذلك ــ وليس من سوءه هذه المرة ــ أن طالبة الأدب (كاتبة هذه المقالة) تقاسمت مع تودوروف رقعة جغرافية هي باريس، التي نبع اختيارها من قبل تودوروف عن صورتها اللامعة ــ خاصة في دول الاتحاد السوفياتي سابقاً ــ كعاصمة للأدب والفنون. وفي باريس، حظيتُ بفرصة متابعة بعض الندوات التي قدمها تودوروف في مدرسة الأساتذة العليا (ENS)، ورأيتُه على خشبة مسرح الأوديون وهو يتحدث بشغف هادئ عن حياة الشاعرة الروسية ماريا تزفيتايفا.
أمران لفتا انتباهي في كل مرة: حسه التعليمي ــ هو الذي استضافته أكبر الجامعات، مثل يال وهارفارد ــ وقدرته المدهشة على التطرق إلى مسائل أدبية وتاريخية شائكة ومعقدة بطريقة مرنة وبسيطة من دون أن تكون مبسطة، وكأنه يأخذ بيد مستمعيه ويرافقهم خطوة بخطوة؛ كذلك، تواضعه المتجسد في جميع التفاصيل (طريقة كلامه، لباسه، هيأته، ولكن خاصة تواضعه العلمي وحرصه الدائم على التذكير بأن عددا من أعماله ليست ثمرة جهوده فقط، بل إن لرفاق عمله فضلاً كبيراً في مسيرته الفكرية).
تواضع تودوروف جعله يرفض وصفه بالفيلسوف، قائلا إنه لا يظن أنه يملك "عقلا فلسفيا" («Je crois que je n’ai pas la tête philosophique»). لكن ما من شك أنه كان يحمل فكرا سياسيا وتاريخيا تطرق من خلاله إلى مسألة الديموقراطية والهوية وعلاقة الغرب بالآخر ("نحن والآخرون"، 1989) عبر التاريخ الاستعماري ومفهوم الحضارة. ولعلّ نشأة تودوروف في إحدى جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً، قد غذّت عنده معارضةً شرسةً للأنظمة الشمولية التي كتب عنها منذ التسعينيات ("التجربة الشمولية"، صدر في 2010 ويحتوي نصوصا كتب عددا منها منذ 1992)، ووعياً حاداً بأهمية العيش تحت سقف الديموقراطية الغربية.
لكن بحلول سنة الألفين، حمل تودوروف كذلك نظرة نقدية نحو الدول الغربية ("أعداء الديموقراطية الحميمون"، 2012)، وكتب عن خوفه من "استبداد الخير" أو ما يسميه كذلك بالـ"مسيحانية السياسية" (messianisme politique)، أي اغترار الغرب بنفسه كمجسد لقيم الحق والعدالة والحرية، وواجبه في الحفاظ عليها ونشرها في العالم، حتى لو تم ذلك عبر الحروب أو التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان غير الغربية ــ تماما كما كان الغرب يعلل حملاته الاستعمارية باسم المبادئ الحضارية العالمية ــ، وقد كان ذلك أحد الأسباب التي جعلت تودوروف يعترض على الهجوم الأميركي على العراق سنة 2003. بيد أن صحة هذا النقد تقتصر على البعد السياسي المصرح به ولا تأخذ بعين الاعتبار الوازع الاقتصادي المبيّت لهذه التدخلات السياسية والعسكرية.
وقد واصل تودوروف تحذيره من نزعة التطرف حتى في كتابه الأخير "انتصار الفنان" Le Triomphe de l’artiste الذي سيصدر الأسبوع المقبل والذي نشرت جريدة "لوموند" مقاطع من فصله الأخير، وهي نزعة تهدد اليوم، في نظره، العالم الغربي والبلدان الديموقراطية ــ وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية ــ، التي مضت قدما في سياسة وضعتها منذ أيام الحرب الباردة وتواصلها اليوم برغم غياب "العدو الشيوعي"، لتقترب شيئا فشيئا من سياسات خصومها السابقين.
يرحل تودوروف وهو لا يزال في أوج عطائه، تاركاً لنا هذا الإنذار كوصية أخيرة وكدليل على أن المفكر الحقيقي دائم النقد والتطور. يرحل ويترك لنا أيضاً أعمالاً ثرية وصدى صوته الدافئ الذي لم يتنازل يوما عن لكنته البلغارية ورنتها السلافية. تودوروف كان مفكراً إنسانيا وديموقراطياً ورعاً، فهل برحيله آن الوقت للخروج من ثنائية الديكتاتورية والديمقراطية الغربية نحو حل بديل؟