باريس | غيّب الموت قبل يومين في باريس، المفكر الفرنسي، من أصل بلغاري، تزفيتان تودوروف (1939 ــ 2017). على مدى نصف القرن الماضي، عدّ تودوروف واحداً من أبرز أقطاب الفكر النقدي ذي النزعة الإنسانية، وقامةً فكرية متعددة الاختصاصات، إذ قدّم إسهامات بارزة في مجالات بحثية شتى، من النقد الأدبي واللسانيات إلى علم الاجتماع والفلسفة السياسية وتاريخ الأفكار.
وُلد تودوروف في صوفيا عام 1939. على مدى ربع قرن، واكب نشأة وتنامي القبضة الحديدية للأنظمة الشمولية الستالينية في الكتلة الشرقية سابقاً، قبل أن يغادر الى باريس، لاجئاً سياسياً، عام 1963. اشتغل في بداياته على النقد الأدبي، ولفت الأنظار منذ باكورته «نظرية الأدب، نصوص من الشكلانيين الروس» (1965)، التي لم يلبث أن أتبعها بـ «الأدب والدلالة» (1967)، الذي كرس شهرته كباحث، وخوّله الالتحاق بـ «المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي» عام 1968.
من خلال هذه المؤسسة المرموقة، تكرّست شهرة تودوروف، خلال عقد السبعينيات، كواحد من أبرز أقطاب المدرسة البنيوية في النقد الأدبي. قدّم في هذا الشأن إسهامات فارقة اندرجت ضمن ثلاثيتين. تمثلت الأولى في «مدخل الى الأدب الغرائبي» (1970)، و«شعرية النثر» (1971)، و«ما البنيوية؟» (1977)، بينما ضمت الثلاثية الثانية «نظريات الرمز» (1977)، و«الرمزية والتأويل» (1978)، و«أصناف الخطاب» (1978).
مع بداية الثمانينيات، ابتعد تودوروف تدريجاً عن النقد الأدبي، رغم أنّه عاد وأصدر لاحقاً أبحاثاً أدبية عدة (راجع الكادر أدناه). انتقلت اهتماماته الى مجالات بحثية أرحب، كالفلسفة وعلم الاجتماع والانثروبولوجيا وتاريخ الأفكار. اتسمت مؤلفاته الفكرية بنزعة إنسانية استعادت إرث الأنوار الأوروبية، لكن بمنظور نقدي. فقد دافع عن القيم الإنسانية التي انبثقت عن فلسفة الأنوار الأوروبية، في بعدها العالمي الشامل، مخالفاً بذلك دعاة «النسبية الثقافية» (كلود ليفي ستروس...). لكنه لم يقع في فخ تمجيد الأنموذج الغربي، إذ حملت أعماله نبرة نقدية معارضة لهيمنة المركز الغربي، الذي لا يتوانى عن التنكر للقيم والمبادئ الإنسانية، التي يُزعم أنه يرفع لواءها، كلما تعارضت مع مصالحه الآنية.
هذا المنحى النقدي في فكر تودوروف انصب في مرحلة أولى، خلال الثمانينيات، على نقد الحروب الاستعمارية الأوروبية، من خلال أعمال كـ «غزو أميركا: سؤال الآخر» (1982)، و«السعادة الواهية: بحث عن روسو» (1985)، و«نحن والآخرون» (1989). ثم امتدت لاحقاً لتشمل نقد التوتاليتاريات الغربية، التي هزت العالم، خلال النصف الاول من القرن العشرين. وأصدر في هذا المجال مؤلفات كثيرة، لعل أشهرها «في مواجهة التطرّف» (1991)، و«الحديقة المنقوصة: الفكر الإنساني في فرنسا» (1998)، و«هشاشة الخير: إنقاذ يهود بلغاريا» (1999)، و«ذاكرة الشر، غواية الخير» (2000).
امتداداً لتلك الروح النقدية، تصدّت أعمال تودوروف، مع بداية الألفية الجديدة، لمشاريع الهيمنة الأميركية، من خلال مجموعة من المؤلفات المدوية، كـ«اللانظام العالمي الجديد» (2003)، و«الخوف من البرابرة: ما وراء صدام الحضارات» (2008)، و«الأعداء الحميميون للديموقراطية» (2012).
ورغم أنه اشتهر بحرصه على النأي بالنفس عن الشأن السياسي الآني، إلا أن تودوروف لم يتردد، خلال السنوات العشرين الأخيرة، عن المجاهرة بمواقف سياسية معارضة بشدة للهيمنة الأميركية، من منطلق أنّ «غواية فرض الخير بالقوة أخطر من كل الشرور»، مستشهداً في ذلك بمقولة شهيرة لفلاديمير غروسمان (1884 – 1976)، مفادها أنّ «الشر الأكبر إنما يصدر عمن يسعون لفرض الخير بالقوة على الآخرين».
من هذا المنطلق، عارض تودوروف تدخل حلف الأطلسي لتفتيت آخر ما تبقى من يوغوسلافيا، عبر فرض استقلال كوسوفو عن صربيا عام 1999، ودان الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، وندّد بالتدخل الأطلسي في ليبيا عام 2011 بحجة نشر الديموقراطية.
وقد فسّر تودوروف النبرة النضالية غير المعهودة التي اتسمت بها مواقفه تلك، في حوار أدلى به لمجلة «لوبوان» الفرنسية، عام 2012، قائلاً: «إننا (في الغرب) نشهد، منذ 20 سنة، مدّاً تبشيرياً يتمثل في الزعم بأننا نستطيع نشر الديموقراطية وحقوق الإنسان، عبر فرضها بالقوة على الآخرين. وهذا، في نظري، أمر مريب ومثير للقلق».




عمله الوصيّة... «انتصار الفنان»

بالرغم من أن الأبحاث الفكرية ذات المنحى الفلسفي والتأريخي اتخذت مكانة مركزية في أعمال تودوروف، منذ مطلع الثمانينيات، الا أنه ظل وفياً لحبه الأول: النقد الأدبي. في موازاة ازدهار أعماله الفكرية، أصدر أيضاً أبحاثاً أدبية عدة، منها «نقد النقد» (1984)، و«مفهوم الأدب» (1987)، و«الأدب في خطر» (2007).
كما كان له اهتمام خاص بالفن التشكيلي، وبالأخص بفناني عصر النهضة، من خلال مؤلفات كـ «الفن أو الحياة، رامبرنت نموذجاً» (2008)، و«غويا: في ظلال الأنوار» (2011). وفي بيان التأبين الذي أرسلته ابنته، أول من أمس، لوكالة الأنباء الفرنسية، قالت إنه أنهى قبيل رحيله مؤلفاً جديداً سيصدر في شهر آذار (مارس) المقبل، تحت عنوان «انتصار الفنان»
ولم يكن مفاجئاً لمن عرفوا تودوروف عن قرب أن يكون عمله/ الوصية هذا مخصصاً للفن. فقد كان يقول على الدوام بأنه لا يعتبر نفسه فيلسوفاً، بل ناقداً أدبياً مهتماً بتاريخ الأفكار. وكان يفسر ذلك بقوله إنّ «الأفكار حين يعبّر عنها أدباء أو فنانون، تكون أكثر قوة وتأثيراً من أفكار الفلاسفة»!