أنت تسكنُ مُسْبَقةَ الصُّنْعِبين مساكنِ بَرْزَةَ
وابنِ النفيسِ...
وقد تتمشّى من البيتِ ، صبحاً ، لكي تَبْلُغَ «الـمَرْجـةَ».
الصبحُ يَعْبَقُ بالياسمينِ...
المدينةُ تستيقظُ .
■ ■ ■
لم تكن في دمشقَ ، الغريبَ...
لقد كنتَ فيها، كما كنتَ في يومِ مولدِكَ؛
اخترتَها، آنَ نادتْكَ أُمُّكَ باسمِكَ. أنتَ المسَمّى بها،
وهيَ (أعني دمشقَ) عروقُكَ
تَخْفَى، وتحفِرُ ، تحتَ الأديمِ...

وتمتدُّ بين الجبالِ وجَبْلةَ،
بين الخليجِ الملَوَّثِ والمتوسِّطِ:
تمتدُّ بين الحياةِ وبين الممات.
■ ■ ■
أنت تَسكنُ مُسْبَقةَ الصُّنْعِ...
■ ■ ■
هل كنتَ تحرِسُ آنِيةً للتهاويلِ والنأيِ
أم كنتَ تهجِسُ : آنَ الأوان ؟
■ ■ ■
أنتَ تسكنُ مُسْبَقةَ الصُّنْعِ.
تلك الحديقةُ تلْتَفُّ فيها العرائشُ، والوردُ يفتحُ أزرارَهُ.
العشْبُ يَنْدى ، وتأتي الحمائمُ من جهةِ «الشيخِ»،
لن تقطعَ الشارعَ. الخيرُ أن تنثني صاعداً. ستكون
السلالمُ دربَكَ نحوَ الخفايا. السماءُ ادَّنَتْ. أنتَ فيها.
■ ■ ■
لم تكُنْ، في دمشقَ، الغريبَ الذي يـــــــــتساءلُ أو يُســــــألُ.
النارُ كانت تأجَّجُ في الموقدِ. الخـــــــــــبزُ ينضَجُ. واللـــبَنُ الحُرُّ
لا يتخثّرُ إلاّ على شفتَيكَ. الموائدُ تمــــــــــــــــتدُّ من «بابِ توما»
إلى الجامعِ الأمويّ. الحدائقُ تمتدُّ تحتَ الحدائقِ. تحت الذهول
■ ■ ■
ويمضي بكَ الطيرُ أبعدَ ممّا ألِفْتَ، وأبعدَ ممّا يُطيقُ جناحاكَ.
«غادةُ» تمضي بــــقُـــطْنِ الفراشِ إلى أن يطيرَ، مع الفجــرِ.
كانت تجيءُ بسيّارةٍ وُلِدِتْ قبلَ قرنٍ. وتسمعُ قعقعةَ الرعــــدِ.
«غادةُ» جاءتْ إلى الدربِ. «مُسْبَقةُ الصُّنعِ» كادتْ تطيرّ!
■ ■ ■
سلامٌ عليكِ
سلامٌ على شجرٍ في شوارعِكِ الجانبيّةِ،
ألف سلامٍ على باعةِ الخضرواتِ
وأهلِ الفلافلِ
والخبزِ...
ألف سلامٍ: دمشق!
■ ■ ■
لكنّ يومَكِ، يا دمشقُ، أشَقُّ من يومِ القيامةِ.
قد غاضَ نبعٌ؛
واسترَدَّ الرملُ شوكتَهُ:
بُداةٌ يحملون نِياقَهم في الطائراتِ أتَوا ليستلِبوكِ...
إنْ تاهتْ بأُغنيةٍ، وماءٍ دافقٍ، حلَبٌ
فقد تاهوا بما يأباهُ خالِقُهم...
لقد تاهوا بمَقتَلةٍ
وأطلالٍ دوارسَ،
علّقوا من رأسِ مِئذنةٍ مُعَفّرةٍ
ضفيرةَ «غادةَ» التي ما غادرَتْكَ
وعلّقوا
طفلاً قتيلاً،
ثمَّ صلَّـوا...
■ ■ ■
جار الزمانُ وأهداني الأذى جاري
ولم يَعُدْ بــَرَدى تنويمةَ الســــاري...
والوحْلُ صارَ بديلَ السَّلْسَلِ الجاري
ما كان وجهُ دمشقَ العابسَ الضاري
هل من سبيلٍ إلى كأسٍ وأوتارِ...
هلْ مِن سبيلٍ إلى بوَابةِ البستانْ؟
■ ■ ■
لو كنتُ أعلمُ أنّ «غادةَ» غايةٌ
لَلَزِمْتُ أرضَ الشامِ؛
لم أبْرَحْ
ولم أسرَحْ بعيداً...
كنتُ، أحياناً، أُطالِعُ وجهَ «غادةَ» في العواصمِ
في مرايا العالَمِ القاسي،
فأنسى أنني غادرتُ أرضَ الشامِ...
ما أقسى الحياةْ!
■ ■ ■
أنتَ تسكنُ «مُسْبَقةَ الصُّنْعِ»
ما زلتَ تسكنُ «مُسْبَقةَ الصُّنْعِ»...
ما زلتَ منتظِراً، في دمشقَ التي لن تغادرَ
صوتاً لسيّارةٍ وُلِدَتْ قبل قرنٍ...
سلاماً
دمشقُ!
لندن 12.01.2015