الكشفُ للمخفي والغوصُ في الأعماق هي أجزاءٌ روحية من مساحةِ جسد الشعر غير المحدودة، المساحةُ المحتضنة لروحٍ متشظيةٍ في أحرفٍ تترجمها، وبياضٍ يتلون بدم خيالها. هذا في الحال العام، فما بالك إن كان الكشفُ يتمسرح خلف حجاب التدين أو حجاب النكران للشخصية في بقائها معذورةً عن المشاهدة وحتى معذورة عن العيش كروحٍ والبقاء ظلّاً لشبحٍ مختبئ يتلقى من دون أن يُلقِّن، يتأثر من دون أن يُؤِّثر إلا بالمفهوم السلبي الإرهابي. «قصائدُ المرأة حاملة الستارة» (دار مخطوطات ــ لاهاي) لشاكر لعيبي قصائد مُمسرحة. الستارة في هذا المسرح هي الحجاب المتلفحة بهِ المرأة، هي قصائدُ شجن عندما تُحاكي الستارةُ دهاليزها وأيضاً عندما تُرفع الستارة لجماهير الناس من حولها، يُمازج لعيبي بين الحالتين ويُقارن بين الحياتين خلف الستارة وأمامها حين تُرفع، ليجعل من كلتا الحياتين بأحلامها وكوابيسها، بأيامها ولياليها، بلحظاتها وسكونها، الروح المُحلِّقة فوق هذه القصيدة الطويلة في ديوانه.
من أنفاسِ كلماته، يُبين لعيبي أنّ الحجاب ليس إلّا عادةً مستوحاةً من تراث العائلة أو يمكن أن يكون انغلاقها على نفسها خوفاً من مواجهة الآخر أو حفاظاً على شرفٍ يُعتقد أنهُ بالحجاب يُصان: «تحت الستارة ضغينةُ العائلة/ كأنّها ترقدُ في سبات الكرمة الشتويّ/ أنامُ أنا نفسي هناك تحت ورقةٍ/ بحدقتين زجاجيتين أعمق من صمت النمرة».
من ثم يبدأ العدمُ حياةً خلف الحجاب (الستارة) لتُضفي العتمة والتشاؤم على كلّ الحواس ويكن الحجاب منفى عن الحياة بعد وضعهِ: «ما جدوى العين الحوراء/ الجوّالة بين أهداب هذه الستارة؟/ ما جدوى الأيام الراقدة في غبار الخزانة؟/ ما جدوى المرايا أمام الصور المحجوبة». لكن لعيبي لا يبدأ قصيدتهُ إلّا حين تخلعُ المرأةُ حجابها، أي حين ولوجها الحياة من جديد، ولتكن لحظة الرفع هي نشوة شطحةٍ صوفية في التماهي مع الإله: «سعيداً كأنّني أخترق الحُجب/ للوصولِ إلى الأرجوحة الربانية».
على لسان المرأة الحاملة الستارة، يُبين لعيبي أنّ دعاة الحجاب يرون فيه ظاهرياً دليل العفةِ والعيش بعيداً عن المعاصي، متناسين انبعاثات الكبت والحرمان كقوةٍ ضاربةٍ لاختراق هذا الفرض من الإجبار: «عندما نزعتُ حجابي/ ارتجف المدى أمام المحارب/ الراغب بالفوز بالعتمةِ التي ظنها ملاكاً». الخلاصُ من الحجاب لا يبدو خلاصاً، كما أنّ الخلاص من السجن لا يبدو خلاصاً، وإنما معايشة من نوع آخر قد لا يندمل جرحهُ مع مرور الزمن: «ما زلتُ متشبثةً بقضبان الضريح/ مولاي هذه حبيبتك الخارجةُ من جناح الفراشة/ مولاي أنا ابنتك التي لم يلمسها حفيف/ ابنتك التائبةُ من ذنوب لم ترتكبها قط». لعيبي مُرمِزاً يتعقب بخيالهِ أوّل الدخول في الحجاب وبالتالي في القيّد والاستبداد والخوف والصمت: «عندما وضعتُ ستارتي/ هبطتُ إلى العالم الأدنى/  كان نِواح المريميات عالياً/ كانت الديدان تدبُّ على بقايا المائدة/ جسدي كان ورق مخطوطةٍ مُبقعةٍ بالرطوبة».

يُبين أنّ الحجاب ليس إلّا عادةً مستوحاةً من تراث العائلة

وفي أوّل الخروج من الحجاب، تبدأ الكلمات في إطلاقها حرّةً مصوِّرةً ما تحسّهُ حقيقةً وما تلمسهُ بصورةٍ إيروسية ليست إلّا نتيجةً لكبتٍ ولِّد أيام الحجاب: «وقفتَ أمامي راعياً/ يهشُّ بعصاهُ عن أيكتي السوداء/ شاعراً ضاوياً ينقبُ حفريات كآبتي».
يُنهي الشاعر العراقي قصيدته الطويلة بمقارنة عميقة بين المرأة عندما خلعت حجابها وعندما وضعت حجابها ليصوِّر تلك الحياتين أمام المسرح وفي دهاليزهِ: «عندما خلعتُ حجابي كنت أجتاز ساحرات العتبة/ كنتُ الفريسة الكاملة ذات الفم المبتهل / بهمهماتٍ لا يسمعها غيري»، و»عندما وضعتُ الحجاب/ كان عِجلُ القبيلة يأكل/ أطراف ملاءتي».
وهكذا يُتمم شاكر لعيبي قصة المرأة حاملة الستارة شعراً في العيش حرّية وقيداً، مُتلذذةً بالأولى ومتأففةً من الأخرى، بعنوانٍ يشي بتحويل ما خلف الحجاب إلى مسرحٍ تتلاقحُ فيه كلّ أنواع المسرحيات، العبثية، التراجيدية، الكوميدية،وما تخفيهِ الدهاليز وراءها.