لو كانت العربة التي ضربت جسده قد أخطأت هدفها ليلة، لكان رولان بارت (1915 ـــ 1980) قد أكمل هذه السنة عامه المئة في الحياة. لقد استثمر الروائي الفرنسي لوران بيني (1972) تلك الحادثة ولعب عليها على نحو جيد لتخرج روايته «الوظيفة السابعة للغة» (دار غراسيه)، وفي مساحة أخرى من الغلاف، كُتبت عبارة «من قتل رولان بارت؟» (الأخبار 22/10/2015).
بعيداً عن الأفكار المجنونة الساخرة المكتوبة في قالب متين ولافت في شكل تناوله لنهاية صاحب «لذة النّص»، مُستنداً إلى واقعة حادث السيّارة التي ضربته لتُنهي حياته في 26 آذار (مارس) 1980، واعتبار الأمر جريمة قتل متعمّد لعالم السيميولوجيا الأشهر، يبقى الوقوف أولاً عند نقطة هامّة تتمثل في الطريقة الاستثنائية التي اختارها لوران بيني للاحتفاء بمئوية بارت عن طريق «رواية» استطاعت منذ صدورها اعتلاء لوائح الكتب الأكثر مبيعاً. هكذا استعاد الناس على نحو ما سيرة هذا العالِم الأبرز في «إمبراطورية العلامات». وثانياً، هناك فكرة أخرى في «الوظيفة السابعة للغة» تعتمد على أن بارت كان على وشك الإعلان عن اكتشاف يتمثل في نبرة لغوية ذات قدرة غير عادية على إقناع الآخرين بفعل أيّ شيء. بذلك، يحضر أهل السياسة هنا بوصفهم المستفيد الأكبر من اكتشاف كهذا يحملهم في رحلة الصعود إلى السلطة. ولنا أن نترك الافتراض الذي طرحته الرواية لنعود إلى أرض الواقع، متلمّسين صلب الاشتغالات اللغوية اللامعة التي كرّس بارت حياته من أجلها، مُهتماً بتقديم كتابة/ قراءة خاصة للنّص مختلفة تماماً عن القوالب المُتعارف عليها، ومُبتعداً بشكل نهائي عن القواعد التقليدية التي تحكمه.
لقد قام بارت في هذا السياق بطرح اقتراحات واسعة تخص أهمّية قراءة النّص أو الصورة على نحو ينقذهما من حالة الجمود والثبات التي أحاطت بهما في تعارض مع حتمية التغيّرات التي يفرضها الزمن ولا بد من الانصياع لقواعده، فـ«ما تنسخه الصورة إلى ما لا نهاية هو لم يحدث إلا مرة واحدة» («الغرفة المضيئة»، 1980) بمعنى أنّ حالة الثبات التي تحدث للصورة بعد التقاطها، لا تمنع من فعل قراءات عديدة لانهائية لها وكذلك النّص الأدبي.
قد تتطابق حالة عدم الثبات هنا مع حالة تنوع الأشكال الكتابية التي طرقها بارت لتصل أشكالاً لم يبلغها سواه خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وهو يتنقل بين النقد الأدبي ونقد الصورة الفوتوغرافية وعلم اللغة والسيميولوجيا والسيرة الذاتية. هذه الأخيرة يمكن ملاحظتها وقد أتت على نحو غير مألوف في زمنها، وصاحبها يقوم بوضع النّص على احتمال القراءة في سياق لا يفترض انتماء ذلك النّص لصاحبه والمكتوب اسمه على غلافه. يظهر «رولان بارت بقلم رولان بارت» (1975) مثالاً هنا وهو يحرص على وضع ملاحظة في مقدمته تؤكد أنّ على القارئ افتراض ما يقرأه منطوقاً عبر شخصية روائية ما تتكفل بحمل دور البطولة فيه. إنه سعي لمنع التطابق الذي يسري عادة حال قراءة «سير ذاتية»، وافتراض تطابق السارد والشخصية وكاتب النّص والعمل ومحاولة وضع حالة فصل يمكن من خلالها إخفاء كاتب السيرة ليبقى النّص وحده في مواجهة القارئ.
اتخذ صاحب «أساطير» (1957) مبدأ الوقوف ضد القراءة الثابتة ومحاولة وضع النّص في مساحة بعيدة تجرّده من سلطة المعنى الواحد أو من تلك السلطة الاستبدادية التي يمتلكها وصارت فرضاً أكاديمياً. لعل القراءة المُختلفة التي قدّمها بارت مُستخدماً تحليلاً نفسياً بنيوياً في «حول راسين» (1965) تثبت ذلك، وقد أعقبتها ردود قاسية من أصحاب السلطة الأكاديمية، جعلته يختار لاحقاً الخروج من عزلته التي كان يشتغل بداخلها والانضمام إلى جماعة «تيل كِل» التي كان من بينها فيليب سولرز. وقد اعتمدت هذه الجماعة فكرة المُغامرة أو المجازفة في تبني صيغ نقدية غير مألوفة للنّص والتعامل مع فعل الكتابة بوصفه متعةً تنطلق من الذات وليس من قواعد ثابتة لا يجوز المساس بها. سيكون النص هنا مطروحاً على هيئة مُغايرة حين الكتابة عنه، متجاوزاً الأسس الثابتة التي كان محكوماً بها قبلاً بمعنى التركيز على ما يقصده النّص قبل الاهتمام بماهية النّص نفسه. وكان بارت نفسه قد سبق هذه الجماعة بوقت طويل حين أنتج «الكتابة في درجة الصفر» (1953)، مُشيراً إلى أهمّية أن يذهب الأدب إلى شيء مختلف عن محتواه، وأن يبتعد عن كونه «قدراً مفروضاً» من خلال امتلاكه سلطة ثانية غير التي حُصر بداخلها، وأن يكون بالتالي قادراً على الإبهار، ولن يكون ذلك إلا بتحوّل الكتابة النهائي إلى «الغياب داخل هذه الكتابات المحايدة التي ندعوها: الكتابة في درجة الصفر».
وفي كل ما أنجزه بارت أو في مُعظمه، كان واضحاً ارتكازه على المحور الذاتي وجعل النّص تالياً في حالة مفتوحة من دون تحديد هوية الـ«أنا» المتحدثة خلاله. وقد كان هذا انعكاساً لحالة العزلة التي عاشها باكراً في صورة اليُتم المُبكر من جهة الأب. كما سيصاب لاحقاً بمرض السل الذي سيزيد من قسوة عزلته. هكذا، انشغل بالقراءة ولا شيء غيرها كأنّ «الحياة تتكون من تلك اللحظات الصغيرة من الشعور بالوحدة».
لن تكون حالة الموسوعية التي ستظهر في نتاجه لاحقاً إلا محصلة لكل ذلك. إضافة إلى كل هذا، هناك نظرة القلق والحذر من كل المُحيطين به. قد تكمن إيجابية هذه العادات التي اكتسبها في طريقة رؤيته وتحليله للأشياء التي تطرّق إليها كتابةً. كما ستبدو حالة القلق ظاهرة في طريقة الاشتغال نفسها التي تشير إلى حالة مختلفة من الكتابة تأتي على هيئة مقالات يتم تجميعها على نحو ما لتصبح كتباً. كأن حياته هنا عبارة عن «مقاطع» أو «شذرات» من هنا وهناك، متنقلاً بين مواضيع شتى ومحاولاً تعويض الوقت الذي مضى من عمره في المرض والعزلة.
هكذا يظهر بارت وهو ينطلق من ذاته ظاهرياً ليصنع كتابة مكونة من علامات عدة ومن عناصر الأشياء التي تحيط به ويتقاطع الناس معها بشكل يومي، بدءاً من إعلانات التلفزيون والموضة والأزياء والسلع الاستهلاكية وقوائم الطعام، وليس انتهاءً بالحزن الشخصي الذي يخصّه. إنه هنا يقتنص ذلك العنصر الخاص والشخصي ليجعله مفتوحاً على عموميته. في مبدأ أو طريقة تحليل الصورة مثلاً، نراه ينطلق من لحظة استذكار بسيطة عندما كان طفلاً، وقد رأى صورة الأخ الأصغر لنابليون، فقال في نفسه «إني أرى العيون التي رأت الإمبراطور» لتتكون بعدها حالة التشبث بالصورة ومحاولات نقدها كتابة وتحليلها من زوايا نظر مختلفة غير مألوفة. وكل هذا إنما أتى ــ وفق اعترافه ـــ في تقديم «الغرفة المُضيئة» وطريقته في تأمل الصورة، رافضاً تلك «الشروح الاجتماعية» الجاهزة لماهيّة الصورة، ما أوقعه في «حالة من عدم الراحة» التي خبرها بشكل يومي، فصار ذاتاً حائرة «بين لغتين: لغة تعبيرية وأخرى نقدية».
هكذا يبدو كأن حالة القلق المُسيطرة عليه دفعته للانتقال من دائرة نقدية إلى أخرى مُقيماً في «البنيوية» لفترة ما، قبل الانتقال إلى ما بعدها وحتى الوصول إلى نقطة النقد المفتوح على أشكال مختلفة في آن واحد، بحيث يصعب تصنيف كتابته أو تأطيرها على نحو محدد. قد يبدو هذا واضحاً على نحو جلي في عملية اختياره للعناوين التي كان يختار الكتابة حولها، ما يستحيل وضعها في خانة محددة مثل «إمبراطورية العلامات» (1970) الذي أتى إثر رحلة سفر إلى اليابان. الكتاب الذي يبدو في شكله الأولي كخواطر رحلة عابرة، هو في حقيقة الأمر اقتراح لقراءة هذا البلد على عكس الصورة التي تم تعميمها عنه.
على هذه الحالة، ظهرت حياة صاحب «شذرات من خطاب عاشق» (1977) الذي يكُمل عامه المئة هذه السنة، لكن وفاته لم تكن في 1980، بل في اليوم الذي رحلت فيه أمه في 25 تشرين الأول (أكتوبر) 1977، وفق ما ذهب إليه فيليب سولرز، أحد أقرب أصدقائه، إذ أكّد أن تلك الوفاة كانت «تحوّلاً حاسماً» في حياته. لكنّ القارئ لن يكتشف حقيقة العلاقة التي كانت تربط صاحب «الغرفة المضيئة» بأمه إلا بعد أن تنشر «دار سوي» كتاب «يوميات الحداد» (2009)، وكان بارت قد سجّل فيه ـــ ابتداء من اليوم التالي للوفاة ـــ يوميّات كان يكتبها على قطع ورقية صغيرة وسجّل في إحداها مُعترفاً «اليوم هو يوم وفاتي الحقيقية».