* فوتوجرافي
وحدها تستحق الكتابة عنها...
صغيرتي التي لا أملّ الحكي عن تفاصيلها، هل يكفي العمر لحكي كل ما يدور بيننا؟
أتمنى لو أمتلك منبراً في وسط المدينة أحكي فيه يومياتنا معاً، وأدعو مصوّري العالم إلى إجازة مفتوحة في زوايا منزلي، سأخبرهم أن هذه هي الفائدة الحقيقية للصور... أن نحكي ما لا يسعنا الوقت لحكيه ببضع لقطات؛ لقطات يمكنها وحدها أن تخبر الكثير.

*لقطة:
ألفّها على بطني كالوشاح وأهز نفسي كالبندول في محاولة بائسة لحثها على الخلود للنوم. تستمر في التقلص والتلوّي بين يديّ ثم تهدأ فجأة وتنكمش قرب صدري، مغمضة العينين ومكورة مثل أرنب في الشتاء؛ أتسحّب بها على أطراف الأصابع لأجلس على الأرض وأستند برأسي إلى الحائط مبحلقة في السقف، منهكة، وسعيدة لأنها سكنت أخيراً.
أتخيل مصوّراً محترفًا يتدلّى من الثريا ليلتقط لنا صورة من الأعلى تبحلق فيها عيناي الواسعتان المحددتان بهالتين سوداوين إلى العدسة، ويظهر أسفلهما جسدي المنكمش على الأرض، يُحيط بجسد أصغر لطفلة قررت أخيراً الاختباء.


*لقطة:
أبكي من ظلم لا يشعر به غيري. أجلس أمامها وأحكي لها كمراهقة متخبطة تحكي لقطتها وتنتظر رداً، أقول كل شيء وأنهار باكية فتنظر إلي بتأثر قبل أن تُمثّل الضحك في محاولة لإضحاكي، ثم تمد يديها للمرة الأولى نحوي كي أحملها. خلف الأريكة القريبة يختبئ المصور الذي يلتقط ابتسامتي وسط الدموع وأنا أنظر لجسدها الذي يشبّ من كرسيها الصغير نحوي، جذعي المائل نحو جذعها المائل يكوّن معها قلباً آدمياً في الهواء.


*لقطة:
أطعمها للمرة الأولى جزراً مهروساً في طبق ملوّن بملعقة ضئيلة. أقوم بإضحاكها فتفتح فمها الدقيق، أغطس فيه بالملعقة سريعًا، ما إن تدرك الخدعة حتى تنظر لي نظرة تمزج الذهول والفضول والغرابة والصدمة ببقايا الضحك، نظرة لا يمكن وصفها بالفعل. خلف رقبتي وعلى كتفي تحديداً، تجلس كاميرا المصور لتلتقط هذا الوجه الصغير المدهش، وجهها الذي يُخلد وحده قداسة البدايات بنضارتها وطزاجتها وبراءتها، والحياة التي تتفجر من جوانبها كمياه ساخنة خـَلقت شقوقها في كوب زجاجي بارد وقررت الانطلاق.

*لقطة:
طاقة من الحب تتفجر ما إن يمس جلدها جسدي.
عارية، أضم جسدها العاري وأتمشى، وحدنا في المنزل نمارس البدائية، كتلتان بشريتان قررتا الامتزاج والعودة للأصول. واقتناص طاقات الحب التي تتفجر ما إن تتماس جلودنا دون حائل.
أدندن تراتيل وأدور في حلقات كالدراويش، أحتضنها وأنا منهكة تماماً ثم أقوم لأرقص فجأة ما إن تصدر صوتاً جديداً بغنجها المعهود.
أجلس على السيراميك البارد لأهدأ من حرارة الجو، ألقمها صدري. ويسرح بي الخيال وأنا أراها تكبر أمام عينيّ، تكبر... وأفكر أنه بعد قليل سيتخيلها غيري عارية، يتخيل ضمتها له، وقدر الحب الذي سيتفجر ما إن يمس جسدها جسده. يرتسم على وجهي مزيج من الابتسام والخوف، تلتقطه عدسة نسائية تعرف كيف تظهر المشهد إنسانياً بحق، وغير فاضح بالمرة. أوصي أن تُبعثَر الصور في الطرقات وعلى عتبات البيوت، تُلصق على أعمدة الإنارة وواجهات المحال.
يمر أحدهم ذات مرة فيدقق في كل لقطة قبل أن يتمتم في سره:
«من كان يدري أن عالمًا آخر يدور خلف حيطان البيوت!».


* واوا!
أنفي يمتلئ برائحة تشبه رائحة الصدأ لا أعرف لها مصدراً، أحوم في الشقة كدودة منفعلة! لا يمكنني تحمل الرائحة ولا أجد مصدرها أبداً... أجلس على الأرض وأستند إلى الأريكة في أسى، لا بد أن لهذه الرائحة مغزى.
أنفث أمام حاسبي توتراً وقلقاً مجهولي المصدر كالرائحة تماماً، ينقبض صدري ولا ينطلق لساني. أرغب في البكاء ولا أعرف السبب!
تستيقظ الصغيرة فأهرع للّحاق ببكائها. أقوم من جلستي، بطرف عيني ألمح بقعة على السجادة. أحاول التركيز فيها قبل أن أغادر، بقعة حمراء بغيضة تلوث محل جلستي بالضبط. أُدير قميصي لأجده ملوثاً بالنزف، تدمع عيني ويمتلئ أنفي برائحة الصدأ التي لم أكن أعلم مصدرها، وأراقب خطين أحمرين على جانبي فخذيّ، أشعر بشيء يشبه الانتهاك، أستكمل طريقي نحو الصغيرة.
أتركها مع اللعب وأذهب لإحضار المنظفات، إزالة بقعة دم من سجادة بلون فاتح هي مأساة حقيقية. أخلط المنظفات وأحاول دعك البقعة وتتساقط دموعي في صمت، الدموع التي لم تساعد على محو أثر البقعة المخجلة. أقرر أن آخذ حماماً دافئاً كي أهدأ قليلاً. آخذ ابنتي بألعابها وأُجلسها على مفرش بلاستيكي ملون على مسافة مني حتى لا تفزع لاختفائي.
تحت قطرات المياه المتساقطة على رأسي المتصدع وعيني المنتفختين. أسد أذني لوهلة، أختار أن أعمل للعالم «ميوت»... أغمض عيني... يغطي صوت المياه المكتوم على كل المحيطات لوهلة، قبل أن أتذكر الصغيرة التي تراقبني من مسافة.
أفتح عينيّ لأجدها تنظر إليّ بفزع وتشير ناحيتي قائلة: «ماما... واوا!»
أنظر إلى محل إصبعها الصغير الذي يشير إلى القطرات الحمراء المتساقطة مني... أنظر بتمعن في عينيها وأبتسم لها...
نعم يا حبيبتي... واوا... واوا ستلازم كلتينا إلى الأبد!.


* قاصة مصرية