خمس قصص طويلة بصوت الحكائي البديع

  • 0
  • ض
  • ض

قصص ألبير قصيري «بشر نسيهم الله» الصادرة في طبعة جديدة عن «دار الهلال» في القاهرة بترجمة لطفي السيد، لا تحمل دراما فجّة حدثية متصلة وواضحة، لأن الحدث هنا ليس البطل، بل إن ثيمة الفقر المدقع، وعالم المهمّشين، مضافة إلى الصوت الحكائي البديع والاستثنائي لقصيري تشكّل القوام الرئيس للعمل. في «بشر نسيهم الله»، خمس قصص طويلة، تراوغ بشكل واضح أثناء محاولة تصنيفها. الكتاب ككل مخاتل يراوح بين المجموعة القصصية، والمتتالية القصصية. بل إنّ هناك من تطرف في محاولته تصنيف الكتاب ضمن بند «الروايات». ذلك أن ثمة بعض الملامح والمعطيات المشتركة بين النصوص الخمسة (ساعي البريد ينتقم، البنت والحشّاش، الحلاّق يقتل زوجته، خطر الفانتازيا، الجياع لا يحلمون إلا بالعيش)، مثل حضور شخصيات وأسماء كالساحر، ومروّض القرود، ومدرسة المتسولين، وعالم الهامش والفقراء والمنبوذين التعساء. في لوحات كثيراً ما تحتشد بالعديد من الشخصيات والأسماء، مضافة إلى أبطال القصة الرئيسيين. في «ساعي البريد ينتقم»، هناك حوار عبثي بين ساعي البريد، وحنفي المكوجي. بالرغم من كون الأول شخصاً مستضعفاً يتعرض لمضايقات من سكان الزقاق، إلا أنّه يؤمن بأنه أرقى اجتماعياً وفكرياً من مجموع الحثالة الذين يسكنون الحي. ذلك أنه موظف حكومي، يعرف القراءة لأنه واصل دراسته حتى المرحلة الابتدائية. وبناءً عليه، فإن الساعي في ذلك اليوم، وفي دردشة عابرة مع المكوجي، يكشف سره الخطير، ويحكي عن معرفته بأسرار كل ساكني الزقاق لأنه يقرأ لهم الرسائل بعد تسليمهم إياها. وبناءً على معرفته تلك، يسعى لتعليم سكّان الحي وتثقيفهم وتنويرهم، هو الساعي الضعيف، الذي لطالما تعرض للضرب والامتهان من رجال الزقاق، مثلما تعرّض للرجم بالحجارة والشتائم من الأطفال والنسوة. المفارقة هنا أن الساعي نفسه ليس سوى نقطة صغيرة في عالم الزقاق، مجرد بائس آخر، إلا أنه بائس يتوسّم في نفسه العظمة. وبين البؤس من جهة، ووهم الأهمية من جهة أخرى، تتولّد المفارقة الساخرة التي تسم سرد قصيري في هذه القصة. ثمة ابتسامات مبثوثة في طيّات الحكاية، حتى أثناء حديثنا عن فقيرين لا يمتلك أي منهم أدنى مقومات الحياة الآدمية. حوار طويل آخر في قصة «البنت والحشّاش» يدور بين الرجل المدمن على تدخين حشيشة الكيف، والفتاة اليافعة، التي تتسلل من بيت أهلها ليلاً كلّما تيسّر لها ذلك، لتصعد إلى حجرة الحشّاش وتطارحه الغرام. الديالوغ إذن أداة رئيسية ضمن أدوات قصيري في سرده. ثمة وعي مسطول يمثّل أحد طرفي الحوار، بينما على الجهة الأخرى، يحضر عقل صغير متّقد ومشدود بالأسئلة. القصة في مجملها حوار عجائبي بين الطرفين، يستند في منطقيته على غياب عقل الحشاش، تحت تأثير المخدر، وتحت تأثير ارتعابه من أزمة الحشيش المقبلة التي سيشح فيها النبات السحري الذي يدخّنه المصريون بنهم وحب. يساوي الحشّاش بين غياب الحشيش ونهاية العالم، بينما لا تجد الشابة مبرراً مقنعاً لحالة هذيان الحشاش، التي تجعله يشرد أثناء حواره في تهويمات وضلالات تضفي على القصة بعداً حلمياً كابوسياً إلى حد ما. في النهاية، يكتفي الفقيران بالانخراط في نوبة جديدة من الجنس، تلك اللذة الوحيدة المتاحة لهما، كبديل رئيس لغياب أساسيات كثيرة لاستقامة أي حياة. الجنس هنا وردة بائسة تنبت في المزبلة والخرائب.

حضور الساحر، ومروّض القرود، ومدرسة المتسولين، وعالم الفقراء والمنبوذين التعساء
الثورة هي محور القصة الثالثة «الحلاّق يقتل زوجته». إنّها ثورة مبطّنة، وإن تم قمعها بوحشية. فكرة التمرّد على تلك الحياة شديدة القحط والبؤس. بين إقدام سعدي الحلاق على تسميم زوجته، وبين ثورة الزبالين والكنّاسين ثمة رابط ما، يحاول «شاكتور السمكري» استجلاءه، عبر سلسلة طويلة من التأملات، تتخللها حوارت مقتضبة تجمعه مع ابنه الصغير الحالم بخروف العيد، والعسكري جحلش الذي قمع تمرد الكناسين، والمفكر الشعبي حاروسي، الذي اتُّهام بأنه من أقنع الحلاق بقتل زوجته، قبل تبرئته. في «خطر الفانتازيا»، يكتب قصيري عن ثورة في عالم التسوّل، والصراع بين الجديد والقديم، أو الكلاسيكية والحداثة، في ثوب قصصي ذكي. الصراع هنا بين فريقين: الأول يقوده المدرس في مدرسة المتسولين الشيخ أبو شاوالي، والثاني يمثله المثقف توفيق جاد. الأول من أنصار مدرسة «الشفقة»، يرى أن المتسول الحقيقي والمتقن لحرفته هو الذي يثير شفقة المانح بسبب هيئته المزرية وعاهاته واتساخه منقطع النظير. أما المثقف توفيق جاد، فيرى أن الصيحة الجديدة في عالم التسول تقوم على «التعاطف». يجب أن يكون المتسول الصغير نظيفاً ومهندماً ومُسَّرح الشعر ليعطيه المانح عن حبّ، ما يجعله ربما يغدق في عطائه من دون أن يشعر بقلق لأن ثيابه لن تتسخ عند اقتراب المتسول. وأخيراً، في القصة الختامية «الجياع لا يحلمون إلا بالعيش»، يحكي قصيري المعاناة الوجودية التي يعيشها الممثل المغمور سيد كرم، وتساؤلاته حول العبث واللاجدوى في هذه الحياة. يؤمن سيد كرم أنّ الحياة لا تحتاج إلا لأساسيات قليلة كي تُعاش: «العالم لا يحتاج لأمور عظيمة، البشر جوعى يا ريا، فالجياع لا يحلمون إلا بالعيش، كل شيء آخر حماقة. مثلاً – قال بعد لحظة – الرجل ذو النعال البالية، أنا متأكد أنه لم يأكل هذه الليلة». بالتوازي مع ذلك، يسرد قصيري معاناة عشيقة سيد كرم، معتلة الصحة التي تضطر لمصارعة الحياة لتتدبر أمرها وتجد لنفسها مصدر رزق... لوحة أخرى عن البؤس والفقر والضنك والشقاء وكل معاناة المهمشين والبائسين الذين لا يشكلون في أوراق الدولة سوى حفنة من الأرقام، بينما يحاول قصيري أن يوجد معنى لتلك الأرقام ويمنحها عمقاً وحياة وأبعاداً ثلاثية. ثمة ملامح بارزة لأسلوب قصيري: الحوار حاضر دوماً كبطل رئيس للقصص التي يقوم أغلبها على وحدة المكان حيث حوار في ورشة، أو جدل على مخدع، أو نقاش في مقهى، لا يذهب بعيداً عن المكان إلا في حال استحضار حكايات أخرى مغزولة داخل الحكاية الأم. كذلك، تبدو الدراما الحدثية باهتة في البناء القصصي لهذه المجموعة، فالتأملات والتفكير والأحلام والتساؤلات المونولوجية أو حتى الديالوغ تقوم بدور الداعم والمقوي لتلك الدراما الخفيفة. هذا بخلاف الأسلوب المميز والساحر لقصيري، عبر جمل قصيرة وسخرية خفيفة وفصاحة خاصة، ينزلق سرد مجموعة «بشر نسيهم الله»، بشكل آسر وناعم. صدرت المجموعة في القاهرة عام 1941، ويقوم جانب من جماليتها على قدرتها على عبور السنوات، لتظل صالحة للتعاطي وممثلة عن الواقع الذي ما زال يحرص على إيجاد مهمشين وفقراء، وإن بكميّات أكبر في سنواتنا هذه.

0 تعليق

التعليقات