هل قدَر الرواية اللبنانيّة أن تبقى مسكونةً بالحرب الأهليّة؟ وهل أثمرت الروايات التي حاولت كسر لعنة الحرب ومضت في طريقٍ أخرى؟ السؤال الحقيقيّ هنا: هل ثمة إمكانيّة لنجاة الرواية اللبنانيّة من الحرب، وما الجديد الذي يمكن أن تضيفه أيّ رواية عن الحرب؟ السؤال الأخير بالتحديد هو ما سيشغل القارئ أثناء قراءته لرواية جورج يرق «حارس الموتى» (منشورات «ضفاف» - منشورات «الاختلاف») التي وصلت إلى القائمة القصيرة لـ «بوكر» العربية. سيبقى مقدار نجاح الكاتب في إنتاج رواية مختلفة رهناً بذائقة كلّ قارئ، كما سيبقى مدى تفوّق الكاتب على أقرانه من روائيّي الحرب الأهليّة مفتوحاً على احتمالات كثيرة.
سقوط اللغة والسرد والشخصيات والأفكار والمعالجة في فخّ الرتابة
المؤكّد أنّ «حارس الموتى» تمكّنت من خداع قارئها في البداية حين لم يوحِ أيٌّ من تفاصيلها بجحيم الحرب القادم. وربما لو تابعت لعبة الخداع هذه، لكان التّقييم سيختلف، وسيصبح لصالح الرواية وكاتبها بالتأكيد، ولكنّ لعبة الخداع هذه امتدّت إلى أقل من ربع الرواية قبل أن تغرق في ضجيج الحرب المألوف، ولم تُسعفها محاولتها (ومحاولة بطلها «عابر») للفرار من الحرب عبر الركون إلى برّاد الموتى في المستشفى. لعنة الحرب طغت على كلّ شيء، ودمّرت كل ما كان سيتألّق بدونها.
ربما لا تنفع عبارة «لو لم يفعلها» في تقييم أيّ عمل فنّي. لكن، فعلياً، لو لم يُغرق الكاتب نفسه وروايته وقرّائه في الحرب، لكان للرواية أبعاد وآفاق أخرى، أكثر رحابة بالضرورة. ثمة تفاصيل كثيرة في الرواية تستحق تركيزاً أكبر واشتغالاً أكثر دقّة وتروّياً في الكتابة، ولكن خيار الكاتب في المضيّ في سرد حكايةٍ تقليديّة جعل وطأة الرواية ثقيلة في القراءة، إذ بدت مثل أيّ رواية متوسّطة أخرى، لو لم ترشّحها لجنة «بوكر». رواية «حارس الموتى» هي المثال النموذجيّ للروايات التي يقدّسها محكّمو الجوائز العربيّة. يبدو أنّ مصير الرواية العربيّة سيبقى مرهوناً بمحكّمين يفضّلون الرواية متوسّطة الجودة. هذا ما رأيناه عند استبعاد روايات أهم وأفضل بكثير، لصالح روايات أقل جودة. لو أردنا استحضار روايات الحرب اللبنانيّة الأبرز خلال السنوات القليلة الماضية لوجدنا أنّها خرجت من القائمة الطويلة في أفضل الأحوال. أُطيح بـ «الاعترافات»، و«طيور الهوليداي إن» لربيع جابر، و«سينالكول» إلياس خوري قبل سنوات، فحُرم القرّاء من قراءة رواية مدهشة، لصالح روايات تبدو كأنّها كُتبت وفقاً لدليل المستخدم. روايات بخطوات محسوبة. روايات لا مجازفات فيها.
المشكلة هنا، أكانت في حالة «حارس الموتى» أم غيرها من الروايات متوسطة الجودة، ليست الكاتب الذي يحقّ له كتابة ما يحب، أو دار النشر التي يحقّ لها ترشيح الرواية التي تظنّ أنها الأفضل أو الأكثر حظاً في الجوائز، وليست هي أيضاً مشكلة لجنة الجائزة في هذا العام. تمتدّ هذه المشكلة على مدى سنوات، إذ تغيّرت اللجان والمحكّمون ولم تتغيّر الحصيلة. خلال أقل من عشر سنوات على «بوكر»، لم نعد نتذكّر الروايات الفائزة. يبدو أنّ المزاج العام في دوائر النّقد والتحكيم هو تفضيل الرواية التي تحاول قول كلّ شيء دفعة واحدة. أما روايات التفاصيل الصغيرة، أو الروايات ذات الصّنعة المتقنة، فهي غير مفضّلة، أو أكبر من مستوى ذهنيّة المحكّمين الذين اعتادوا على معايير القراءة «الطبيعيّة». يحقّ للقارئ أن يقيّم الكتب على أساس حبّه أو عدم حبّه لها، ولكن ينبغي للمحكّم أن يفعل ما هو أكثر وأفضل من هذا، وأن يميّز مدى الصّنعة التي تميّز الروائيّ عن الحكّاء.
حاول جورج يرق إيهامنا بأنّ بطله «عابر ليطاني» مختلف عن الشخصيّات الكثيرة التي قرأناها في روايات الحرب. إنّه مقاتل بالصّدفة، عامل في برّاد الموتى بالصّدفة، عاشق بالصّدفة، سارق بالصّدفة. كلّ ما كان يحلم به هو أن يستمر بقراءة روايات أغاثا كريستي من دون إزعاج. كان عابر يمتلك ميزة الاختلاف فعلاً، ولكنّ الكاتب لم يستثمرها كما يجب. كان يمكن للرواية أن تكون إحدى الروايات المهمة التي تصوّر تقلّبات شاب في بداية العشرينيّات، أُرغم على دخول حرب لا يكترث لها، ثم أُرغم على تركها، ثم أُرغم على العمل في برّاد موتى، ثم اختُطف بسبب خطايا لم يرتكبها، بل كان مجرّد شاهد صامت عليها. ثمة تفاصيل كثيرة مدهشة كان يمكن لها رفع مستوى الرواية بعيداً عن رتابة الكتابة عن حرب كتب عنها الجميع. «حارس الموتى» ليست هي الرواية التي يُنصح بها كرواية حرب، وليست هي الرواية التي تصوّر سيكولوجيا المراهقة وما بعدها، وليست هي الرواية التي تشرّح سبعينيات القرن الماضي، أو تصوّر الصّدام بين الريف والمدينة، وليست هي الرواية التي تؤرّخ للأبطال المهمّشين العابرين في صفحات التاريخ. كانت الرواية تحاول قول كلّ هذا دفعة واحدة، ولذا بدت باهتة في المحصّلة، إذ بدت كلّ التفاصيل مسلوقةً على عجل، تاركةً للسّرد التقليديّ الرتيب فرصة احتلال الرواية بأكملها.
ما يتبدّى بوضوح أثناء قراءة «حارس الموتى» هو النيّة الحسنة لكاتبها. حاول جورج يرق جاهداً كتابة رواية مختلفة، ولكنّ العدّة الروائيّة لديه لم تكن كافية. حين تسقط اللغة والسرد والشخصيات والأفكار والمعالجة في فخّ الرتابة، فإنّ كل ما سيتبقّى هو الحكاية. لا يحتاج القرّاء إلى حكاية أخرى، فثمة فائض من الحكايات. ما نحتاج إليه هو رواية حقيقيّة. ويبدو أنّنا نقف في مكان انتظار خاطئ حين نترقّب روايتنا المنشودة من محكّمي الجوائز. انتظار طويل ربما، ولكنّ الأمر يستحق الغرق في خيبات أخرى، لعلّنا نجد ضالّتنا.