تقديم وترجمة عن الإسبانية: أحمد يماني
أوجينيو دا أندرادي (Eugénio de Andrade) هو الاسم المستعار للشاعر والناثر البرتغالي الكبير جوزيه فونتينياس. ولد أوجينيو دا أندرادي (1923-2005) في كنف عائلة فلاحيّة، وهو ما أورثه ازدراء للحياة المترفة التي رأى فيها نوعاً من الانحدار. عمل موظفاً حكومياً وتأثر كثيراً بالثقافة اليونانية والشرقية، وحاز معرفة عميقة بالشعر المكتوب في الإسبانية، وكان معجباً بكلٍّ من: غوستابو أدولفو بيكر (الشاعر الرومانتيكي الإسباني 1836- 1870) والشاعر الصوفي الإسباني سان خوان دي لا كروث (يترجم في العربية تحت اسم: القديس يوحنا الصليبي 1542- 1591)، ورامبو وفرناندو بيسوا ووالت ويتمان.
رحل أندرادي في بداية القرن الجديد، بعد صراع طويل مع المرض، وهو من رأى في القرن العشرين العصرَ الذهبي للشعر البرتغالي، بأسماء من قامة فرناندو بيسوا. كما رأى فيه زملاؤه من الكتاب البرتغاليين واحداً من أكبر شعراء اللغة البرتغالية على مر العصور، كما يقول جوزيه ساراماغو. أيضاً هو «الشاعر» بألف ولام التعريف بالنسبة إلى الكاتب البرتغالي الكبير أنتونيو لوبو أنتونيس. له أكثر من سبعة وعشرين ديواناً وتُرجمت قصائده إلى أكثر من عشرين لغة، ونال أهم الجوائز الأدبية في اللغة البرتغالية، كما أنه نقل إلى اللغة البرتغالية قصائد كبار الشعراء الإسبان على شاكلة لوركا وأنتونيو ماتشادو وخوان رامون خيمينث. كان أندرادي ينفر دائماً من الحياة الاجتماعية والاستعراضية التي كانت تصيبه بالهلع، فلم يهتم أبداً للمال أو للشهرة وكان يهرب ما استطاع من المقابلات والميكروفونات، وظل اليساريَّ العتيد المهاجم دائماً لأي نوع من أنواع الظلم والاضطهاد.
هنا قصائد له ننقلها عن الإسبانية مع الاستئناس بالنص الأصلي البرتغالي في ترجمة للشاعر الإسباني ميغيل لوسادا، صدرت مؤخراً في مدريد عن منشورات أورلاندو، تحت عنوان: «بياض».
في المقدمة التي كتبها ميغيل لوسادا يشير إلى أن ثمة شعراء مهمين وثمة شعراء ضروريين ولكن ثمة شعراء لا غنى عنهم، ويؤكد نُدرة هؤلاء وهم الذين أصبحوا بمثابة جزء من حياتنا لا نكف عن العودة إليهم مرة بعد أخرى، وبين هؤلاء الأخيرين يبرز أوجينيو دا أندرادي كواحد من أعمق شعراء أوروبا في القرن العشرين وأكثرهم كثافة وشفافية:


* بيت في المطر

المطر، مرة أخرى المطر فوق أشجار الزيتون.
لا أعرف لماذا عاد هذا المساء
إذا كانت أمي قد رحلت،
فهي لم تعد تأتي إلى الشرفة كي تراه يسقط،
لم تعد ترفع عينيها عن الثوب الذي تخيطه
كي تسأل: هل تسمع؟
أسمع، يا أمي، إنه المطر مرة أخرى،
المطر فوق وجهكِ.

* ساحة مالاه سترانا

أعشق هذه الحمامات، هؤلاء الأطفال.
الأبدية لا يمكن أن تكون بشكل آخر:
حمامات وأطفال يصنعون
من ضوء النهار الذي لا يُقارن
المكانَ البريء للقصيدة.

*مرثية صغيرة من سبتمبر

لا أعرف كيف أتيتِ،
لكن لا بد من وجود طريق
للعودة من الموت.

أنت جالسة في الحديقة،
يداك في حضنك، مليئتان بالعذوبة،
العينان تحطان على الورود الأخيرة
لأيام سبتمبر الطويلة والساكنة.

أية موسيقى تتسمعين بانتباه
حتى أنك لا تنظرين إليّ؟
أية غابة أو نهر أو بحر؟
أم أنه داخلك
حيث كل شيء لا يزال يغني؟

كنت أود الحديث معك،
أن أقول لك فقط إنني هنا،
لكنني خائف،
خائف أن تتوقف الموسيقى
وأنت لا يمكنك أن تنظري أكثر إلى الورود.
خائف من قطع الخيط
الذي تخيطين به الأيام بلا ذاكرة.

بأية كلمات
أو قبلات أو دموع
يتم إيقاظ الموتى دون جرحهم،
دون إحضارهم إلى هذه الرغوة السوداء
حيث أجساد وأجساد تتكرر، بتقتير، وسط الظلال؟

ابقي هكذا،
أيتها المليئة بالعذوبة،
جالسة، تنظرين إلى الورود،
وغير واعية إلى درجة أنك لا تنتبهين إليّ.

* وجهاً لوجه

ليس بإمكانكم فعل شيء أمام الحب.
أمام لون ورق الشجر،
أمام لمسة الرغوة،
أمام الضوء، ليس بإمكانكم شيئاً.

بإمكانكم منحنا الموت،
الأكثر حقارة، هذا ما تستطيعونه
وهو جِدّ قليل.

*صيف فوق الجسد
(مقطع)

كانت هي من توقفت على العتبة وَجِلةً بعض الشيء، بذراعين مفرودتين؛
معها كان يأتي الضوء الخام من الأفنية المدهونة لتوّها بالجير، فرحة الخبز الذي لا يزال ساخناً بين أصابعها.
بعد أن نظرت إليّ كأنها كانت متعطشة لعينيّ بدأت في الرقص: كانت ترقص وجسدها يعود طويلاً من فرط ما هي شابة كما كانت من قبل.
أين أمي؟ سألت أنا فجأة. لم تكن هناك أُمٌ. أَمْ كان فحسب... لا، لم يكن.
فقط أنت تكون أمك، قالوا لي بعد ذلك، بينما كنت أعرف أنني فقط الابن الذي تبقّى لي. جميع الموتى الآخرين في الصحراء، من هنا، من هذه النافذة حيث يُلمح بياضٌ متكلس، لا بد أنها عظامهم.


*من الجهة الأخرى

أنا أيضاً جلست مرةً على باب الشفق، لكن أود أن أقول لك
إن تجارتي ليست بالروح، ثمة كنائس بإفراط ولا أحد يمنعك الدخول. مت إذا شئت من أجل إله أو وطن، هذا شأنك؛ كذلك يمكنك أن تموت من أجل شيء يخصك، فدائماً ما كانت الآلهة والأوطان ممتلكات لبعض القلائل، لكن لا تطلب مني، أنا الذي أعرف فحسب طرق العطش، أن أرشدك إلى اتجاه الينابيع.


*كانت

هناك كلمة
في العتمة.
صغيرة. متجاهَلة.
كانت تدق في العتمة.
تدق
في أرض الماء.
من عمق الزمن،
كانت تدق.
تدق الجدار.
كلمة
في العتمة.
كانت تناديني.


* القصيدة الأخيرة

إنه عيد الميلاد. لم أكن أبداً وحيداً تمامأً كما الآن.
إنها حتى لا تُمطر كما في قصائد بيسوّا
أو في غابات نيو إنجلند.
أترك عينيّ تمرّان بين بريق القرنفلات
وبين ثمرات الكاكا المشتعلة في الظل.
من لديه الصيف داخل البيت
لا ينبغي أن يشكو من الوحدة،
لا ينبغي.

* الابتسامة

أعتقد أنها كانت الابتسامة،
كانت الابتسامة مَنْ فتحت الباب.
ابتسامة بضوءٍ كثير داخلها، تثير الشهوة
للدخول فيها، نزع الملابس،
البقاء عارياً داخل تلك الابتسامة.
الجري، الإبحار، الموت في تلك الابتسامة.


*ساحة البهجة

رائحة طيبة لقهوة صُنعت لتوها، أو بالأحرى قهوة ممزوجة برائحة البفنسجات التي وضعها البائع الصغير فوق طاولتي، مُلحّاً على أن أشترى باقة منه. إلى من سأهديها؟ هذا بعينه ما قلته له، إنني أعيش في أوبورتو كمن يعيش في جزيرة الغراب، ليس لديّ من أحد أهديه باقة من الزهور. الولد الصغير، بعينين غامقتين لمُهرٍ وديع، مُستشعراً ضعف رفضي، لم يذهب. انتهيت إلى شراء البنفسجات وإهدائها إلى القَمَرَة، التي بدأت في البزوغ على ناصية الساحة، بيضاء، مدورة، لحيمة وعند قبولها الهدية، رغم أنها عاهرة قديمة، فقد اتخذت لون حبات الكرز.