لا وقت للروايات، تلك التي تطير أحداثها في بيتك، ومن منقارها تتدلى قشة ذهبية. يرن جرس بيتك. تتردد في فتح الباب. تأخذ نفساً عميقاً ثم تفتحه بهدوء كما لو كانت الذكريات. تطمئن قليلاً، لم تكن تلك العاشقة ذات الخصر الحار. تركت موعدها مع حبيبها وجاءت إليك كما كنت تشتهي، لتقنعها بأن حشائش سرتها لم تخلق للقبور، وأن ثعالب الكحل في عينيها الضائعتين لن تعرف الركض هناك، في ساحة القصر الوردية، لم تكن عشيقة البطل في الرواية تطرق بابك.
لماذا تخيّلت أن ترمي انتظارها أرضاً وتجيء حافية إليك؟
ومن كان يطرق بابك لحظتها؟
إنها مندوبة مبيعات فقيرة، ساعة يدها مهترئة من فرط الغياب، تعلو فمها ابتسامة مهترئة أيضاً. كانت شمس الظهيرة تسلق كحل عينيها وهي تحاول إقناعك بأنك لست في كتاب، أنت الآن في حقيبة أغراضها، بين مرطبات البشرة وشفرات الحلاقة وأقنعة بالفواكه. تكذب على وجهك وعمرك.
زمن الروايات الجميل، حيث هواء الدهشة الفضي يغسل عنك وجهك في الصباح، يغيّر ربطة عنقك، وجهتك، قبل الحرب، أتذكر؟؟ كانت أوقاتاً روائية عظيمة. كنت الروائي والبطل والعدو والمنتصر والمهزوم. لقد نامت تلك العاشقة في سريرك ليالي كثيرة، أطول من كل لياليها التي قضتها في مخدع حبيبها الحبري.
لا وقت للشعر يأخذ روحك إلى النبع، حيث الحقيقة هادئة وشهية كأحمر شفاه في بيت أرملة تتذوق طعمه في الليل، ويتذوق فراغ العدم فوق شفتيها المالحتين.
لا يوجد كرسي بنافذة خضراء في مخيلتك. أين سيجلس المشهد عندما يدوخ، ومن سيؤرجح القفلات المفتوحة في الهواء؟
من سيُنجد الحواس المتألمة على أطراف القصيدة ويحملها بين ذراعيه؟ الشاعر قتل الخوف وترك لك عظامه تصطك أمام عينيك. كيف ستعيد الجريمة إلى زمانها وذاكرتك أصبحت صدى يهذي كرصاصة طائشة؟
ــ ألست عنواناً جميلاً أيها القارئ؟
يقول كتاب.
ــ لكني بلا ظل بلا بيت، وليس في جيبي أصابع،
يجيب زائر المكتبة.
لا وقت لكتب الرفاهية ذات الخواتم المرصعة بالكسل ونذوره اليومية.
ــ كم وزنك الآن؟
ــ هل تريده مع شهوتي أم وحده؟
ستتعلم لغة جديدة بخمسة أسابيع. افتح فمك مثل فضيحة وأنت تنطق هذا الحرف. أعطِ دمعتك للمحطات وابلع ماضيك. انطقني أرجوك. ستجدها صعبة أول الأمر، كلما نسيت أكثر عشت أنا أطول، ستنسى في أحضاني كل شي، وستتعلم أن تكتب اسم السجان والسجن ورقم الزنزانة بحروف تتقن دفن صراخك بين صخور وهمها الناصع، ليغدو صخرة أيضاً تفضل الحليب المعلب والطريق المكشوفة والنشوة الجاهزة سلفاً.
لا وقت لقصص الأطفال. دعها مكسوة بغبارها. الأطفال في هذه البلاد يحبون الليل أكثر حيث الحرب نائمة وأحلامهم بخير. يلعبون في فصل الشتاء أكثر، فالحرب تبرد أيضاً والضباب الكثيف لن يسمح لها برؤية رشاشاتهم البلاستيكية بين الزواريب، والقصة لن تنتهي بعد اليوم بزواج راعية البقر من الأمير، ولا بكنز الحطاب تحت الشجرة. فوق قصة عقلة الإصبع آخر الرف، استرخت شباك عنكبوت وفي جوفها بقايا جثة. إنها قصة حقيقية.
ــ بابا هل يضعون القذيفة على بساط سندباد السحري كي تطير؟
لا وقت لأقلام الحبر، تثبت القناع على خطنا، وتشطب بفأسها الحادة لمعان الألم مكان النقطة. نكتب بلون وقلم واحد في رأسه ممحاة ثابتة كتجاعيدنا، نمحو بها دموع الأولين.
يليق بالوداع المتردد على مفارق الشوارع، بعربات الخضار المكسرة أول السوق، بالأسماء المثقوبة على حيطان المدارس، بعلاقة الثياب تهتز وحيدة على حبل الغسيل، قلم رصاص صغير، أي لون يضاهيك أيتها الحرب كهذا الرمادي المكتنز بالندم.
لا وقت للجرائد اليومية. أعطني صفحة بيضاء. سأصنع لك في ثانية خبراً عاجلاً، تلمع في عينه حقول قمح محروقة، ويلسع صقيع جرس البيت الفارغ يديك، ولن تكون بك حاجة كي تقلب الصفحة وتكمل الخبر.
ما هو برجك؟
لقد فقدته مع يدي أيضاً. كنا نغادر البلدة معبأين في سيارة مكشوفة، وكان صاروخ ينفجر قربنا ويغادر معنا حياته.
إلى المكتبة القديمة آخر الشارع دخلنا معاً، أنا والحرب وضحاياها هذا الصباح. الحرب اشترت كتاباً حديثاً عن فن الطهي. كنا نحن نتقدم بغريزة واحدة لنأخذ الشيء ذاته، قلم رصاص وجريدة تؤمن لوحل أحذيتنا فرصة للنجاة، جريدة قليلة الأوراق والفرص، شاحبة ترقد قرب كتب التاريخ والتراث، توزع مجاناً كالنعوات، ويدق قلبنا مجاناً ونحن نطلب رقم هاتف دافئ مطمئن أسفل الإعلان:
آلو... لقد قرأت إعلانك منذ قليل، أستطيع فعل كل شيء لأمك المقعدة ولضجر أبيك العجوز. سأشعل لهم المدفأة عند المساء، وأخفض صوت التلفاز، وإن مالت نظارة أبيك سأمسحها بكم قميصي وأعيدها إلى وضعها الطبيعي. لن تنسى أمك موعد دوائها. سأجثو ككلبة قرب سريرها وأرقب الساعة، وعندما يضجران، فلتكن مطمئناً يا سيدي، في حوزتي الكثير من النكات والحكايا، وعلى وجهي لا تظهر أمنيات القتلى أبداً. صدقني أستطيع حتى أن أضحكهما طويلاً، وقلبي خيمة تغرق من فرط البكاء.


* شاعرة من سوريا