/ 1 /


عاشَ دون أن يُحب، بعدكِ، كأنّه المُجرد، أو كأنه عشبٌ ما ضائع في كثيرِ من عشبٍ آخر، ونام، حين عاد، من مشوار في البرد. ولا كأنه غنى يوماً ما، أغنيات قديمة، ولا كأنه بجًّل أناشيد. وعاش دون أن يُحبّ لأنه دوماً شديد الإغراق، ومضيّع أوردة، وما شابه، وخطى تقود إلى ضلالات شتى. وما مات إلى اللحظة إلا لأنه مزيداً عاش دون أن يُحب، ولأنه شديد الإطالة في التذكر. لا زاده من ذاك الذي يشفي نهم الجائع، ولا ماؤه الدافئ يروي من القحط، وأحياناً، وليس كثيراً، ينتابه البعد، والسقوط في حنينٍ إلى مخاوف. من ضلعه المقوس يشدّ وتراً ويصوب إلى دريئةٍ ما في الرؤى، والقلوب التي في حياداتها.
سلاماً، وناراً، وماءً عليه حين يفيق من إغفاءة ولا يعرف إلى أين يمضي، وحين في جوفه تعب من السُّكر، وفي رأسه رغبة أن يشرب بحراً وامتداداته.
عاش دون أن يُحب، بعدكِ، كأنه المُحدَّد، أو كأنه سكة قطار ولا تنتهي احتكاكاتها حين تعبر قطارات تقل من لا يدهشهم قطارات شمالية تجعل الأقاصي أقاصي لغيرهم.
كانت حياته غُفلا، دونكِ، وقصائده، غُفلاً، دونكِ، وكلّ أنشودة أنشدها، عن أنهار كان يريدك معها، صاعدةً من أرض للأساطير إلى أرض بلا حكايات تُقلّ الدهشة وآلام القلوب إلى مقابر فوضوية، وأخرى، شديدة التنسيق
عاش دون أن يُحب، بعدكِ، باعتيادية، ومات في عيشته المديدة لأنه أحبك.

/ 2 /


الهواء يعبث بالنخلة، وهذا لا ينبغي أن يحصل؛ كل نخلة صحراء، وفي الصحراء، الريح فكرة، والفكرة لا تهز شيئاً.
هناك جسر والجسر يهتز، وهذا لا ينبغي أن يكون، فكل جسر جفاف، وعلى كل جسر، البلل استحالات، والغرق أقصى الممكن، أما العبور فرجحان؛ فالجسر جسر.
الهواء يعبث بالجسر، والنخلة تجتاز الجسر الذي يتأرجح.
الضفة الأخرى ليست بعيدة. هناك من ينتظر وروحه صلبة كنواة تمرة. لا شيء أكثر عُرياً من نواة بلا مداراتها: لا بد أن يسيطر الغيم على الأعالي
امرأة تجلس في الأرجوحة. الاندفاعات النّواسية تخلخل الفستان الغريب
ما الذي يجمع النخل بالبحر عدا أنهم يقومون بالتزيين!
كل مشهد يتدلّى من حلم ما. كل مشهد ينبغي وضعه موضعه، ولقد خرجت من بلاد كلها كوابيس.
الرفاق القدامى يتطايرون في عاصفة الأمكنة. أمدّ لهم ما يتشبثون فيتشظون...
أين ينام طائر الصحراء؟!
الهليكوبتر تعبر هاهنا بسلام، والحقير الذي أطبق الباب بقوة جعلني آخذ وضعية الخائف منبطحاً، وأسدّد ضحكة صفراء ودموعاً لا مرئية إلى دريئة المستقبل.

/ 3 /




رأيتهم يجدّفون والماء مراياهم. ومن بعيد ظننتهم ذوي رحلٍ هاربين في الظلمات. وسمعت صفير الفرحين بالوصول إلى ضفاف قلوبهم، وكأن طيوراً مجانين جلسوا في سدة العقل
وأنا ما أغلقت باباً، ولا توانيتُ، وقلت: أسقيهم ماءً
كلهم هبطوا رمالاً كأنها ستائر فرشت ليتكئ قمر سكران، وما قالوا شيئاً، ولا استسقوني
سِراعاً اتخذوا أماكن تحت نوافذ تنبعث منها أضواء متفاوتة البياض حدّ الصفرة التي هي صداع القارئ.
كلهم عزفوا فأطلّت عليهم نساء مضوا بهن إلى مراكبهم
وأنا صرخت دون أن أسمع إلاي:
يا عازف الناي لا تجلس تحت شرفتها!!
ومن يومها لست إلا سروة تنتظر حطّاباً.

/ 4 /


برد الصباح، تأمُّل الجهاز العصبي للشجرة الخريفية الماثلة
وهناك بعيداً
عصافير الثلج القديم
وكأن ناراً اتقدت من تلقاء نفسها
أو
انبثاق حرارة الشرق الفجائية
لشواء المزاج والأخيلة
ليس بمقدوري أن أكون ندّاً للعصافير ولا للبرعم المنبثق
مرَّ وقتٌ طويل ولم أصافح أحداً
اليدان الوحيدتان اللتان عبثتا بأصابعي لشُرطيّة
بصمات... بصمات... بصمات
أتذكر يديّ المتسختين بالحبر
ولا يهم، فالقلب نظيف!
الملائكة لا تمانع أن تحط على كتف الرجل ذي القميص غير المكوي
بلا قلب، كباذنجانة متعرّقة، وشُحّ في التهاويم
برد الصباح، وعينان مسكونتان بالطيور
ومغرورقتان بالأشجار
فليعانقني كل من عرف اسمي.

/ 5 /


لانشغالاتٍ، لا أكثرَ، وليستْ قطافَ عنبٍ وزيتونٍ وما شابهَ
وإنما مصائر وأرواح وعبارات ضيّقة ورؤية أضيقَ..
وما ائتلفَ، وأجناد وجنود مجنّدةٍ
لانشغالاتٍ، وأنّ الانشغالاتَ، كثيرٌ من قهوةِ العتمةِ، وما شاكلَ
وأحياناً، لا ينبغي الشّكر، وأحياناً أريدُ أن أفعلَ
لكنَّ الجنوبَ هنا مشتعلٌ، والطائراتُ المروحيّة تأتي مع الليل
وموسيقاكِ، ليست من تلكَ التي يقال لها: شكراً،
فبعدها انهماكات،
وأنّ ظلالاً منفلتةً من عِقالها تسوقها أضواءَ صفراءَ إلى جدرانٍ
مكسوّة بغبار من مصادرَ شتى
الوحدةُ وموسيقاكِ
وشكراً...


/ 6 /




وما الصباح، أن تشرق الشمس؟! كلا. وما الصباح، أن تفرك عينيك بأصابع بالكاد تتحرك؟! كلا. كانوا طوال الليل يلقون قنابل مضيئة في السماء، وكانت تشرق الأنوار الحربية من جهة التلال العالية، وأنا أفرك عينيّ دائماً حين لا أصدق ما أرى، وحين أنزل من امتطاء دراجة ناريّة. فما الصباح إذاً. إن الصباح هو علامات الصباح. كأن تقول: لليل دأبٌ، ولما بعد الظهيرة كُنْهٌ. أو أن تعبّ أوكسجيناً زائداً عن حاجتك للنفَس الواحد، فتقول: للغروب سيماء. مخطئ إن قلت: إن الظل امتناع الشمس عن الوصول. أو إن الخسوف هو تموضعٌ. فما هما إذاً؟! هما أشياء بذاتها. الظل هو الظل يأكل ثلاث وجبات في النهار. والخسوف موسميّ كالفاكهة. ثمّ ماذا؟! لا طائل من الجلوس، وأنت تعلم، أنك من سنتين ما زلت جالساً، على بطنك، مثل حشرة كافكا. والعمل؟! لا شيء. فكر بألحان يغنيها موسيقي بارع على اليرغول، وأنك تشوي أرنباً اصطدته، على نارٍ هي نارٌ أنت أشعلتها، وأنك تشرب خمراً مصنّعاً، وتنتظر حُباً يهبُّ من إحدى الجهات. كل هذا. نعم. خذ الأشياء كما هي و«اقتصدْ في السرد».

* شاعر فلسطيني