كان ذلك في نهاية سبعينيات القرن الماضي، أثناء جولات نهم شديدة على القراءة في مكتبة «المركز الثقافي» في مسقط الرأس. إلى تلك المدينة الصغيرة والمهملة والبعيدة من العاصمة، كانت تصل نسخٌ من المطبوعات ذاتها التي يمكن أن تجدها في سلسلة المراكز الثقافية المنتشرة في دمشق والمدن الكبرى أيضاً. كانت الكتب تكسر ذاك الإهمال وتلك الجغرافيا، وتصنع لقراء مجهولين علاقات شغف مدهشة مع مؤلفين من جنسيات مختلفة سورية وعربية وأجنبية. كانت القراءة شغفاً، ولكنها كانت تمضية للوقت المديد الذي كان يستغرقه اليوم الواحد لكي يمضي ويأتي الغد الذي سيطول بدوره، ولا بد من قتل الضجر والساعات بقراءات متواصلة.على الرفوف المعدنية المغبرّة لمكتبة المركز التي كنت أتردد عليها بشكل يومي تقريباً، لإعادة ما استعرتُه وأخذ كتاب جديد. على واحد من تلك الرفوف التي خُصصت للروايات والقصص، كنتُ أتعثر بعنوان رواية اسمها «الضحك».

لا أتذكر عدد المرات التي وقع نظري فيها على باكورة غالب هلسا الروائية، ولكني لا أزال أتذكر استغرابي أن تكون مفردة مثل «الضحك» عنواناً لرواية. كان العنوان الذي يُفترض أن تصنع غرابته جاذبية ما للقارئ يؤجل فكرة قراءة الرواية، بل يُبعدها ويطردها أيضاً، وكانت كنية المؤلف الغريبة أيضاً (هلسا) تعزز هذا التأجيل وتقتل فكرة القراءة من أساسها.
لا أتذكر الآن إن كنت تجرأتُ وقررت أن أستعير الرواية ذات الغلاف الرصاصي الباهت لأتخلص من تعثّري بعنوانها واسم صاحبها، أم أنني تجرأت وراهنتُ على أن العنوان الغريب للرواية ربما يحمل مفاجأة سردية سارّة في صفحاتها التي كانت كثيرة ومن القطع الكبير، أم أنني أنهيت قراءات الروايات التي كانت موجودة في الرف المخصص لها، ولم يبقَ سوى رواية غالب هلسا لكي أقرأها كتحصيل حاصل.
قرأت الرواية أخيراً، وكان انطباعي الأول هو أن علي أن أقرأ فوراً أعمال غالب هلسا كلها. كانت «الضحك» بداية مطاردة رواياته ومؤلفاته وترجماته. صحيح أن «الضحك» كانت تحمل أغلب الانطباعات التي كانت تنبعث من النماذج الجيدة للرواية المصرية، إلا أنها كانت تتجاوز أو تتفوق بطريقة ما على طابعها المصري بشيء يصعب تحديده بدقة، بشيء يمنحها مذاقاً أجنبياً، ويجعل مصريتها غير صافية. عرفت لاحقاً أن غالب أردني، وأن هذا قد يكون دليلاً على «أجنبية» ما، ولكن تلك الأجنبية كانت تتجاوز هذه المعلومة أيضاً، وتتدخل في تأليف رواياته وفي أسلوبيتها وسرديته وحواراتها التي كانت تأخذ حيزاً واضحاً في مساحات السرد والوصف.
سأجد «السؤال» و«البكاء على الأطلال» في مكتبة دمشقية، وستتعزز أجنبية غالب هلسا في ترجمته لرواية «الحارس في حقل الشوفان» لسالنجر، و«جماليات المكان» لغاستون باشلار. وسيتعزز ذلك أكثر في كتاب صغير سينشره صاحب «الضحك» بعنوان «أدباء علموني أدباء عرفتهم». كانت «الأجنبية» مادة مخلوطة بالسرد وذائبة في مبدأ الكتابة والتأليف، وليست صفة ملصوقة برواياته. لقد اهتدى صاحب «الروائيون» مبكراً إلى جملة روائية تخصّه. جملةٌ مدينةٌ لتأثيرات عديدة طبعاً، ولكنها تحولت إلى مقتنيات شخصية في أعماله. جملة يمكن التعرّف إليها في حيادية الوصف، وفي طريقة استخراج الأداء الروائي للشخصيات الرئيسية والثانوية، وفي مزج الواقع السياسي مع مصائر تلك الشخصيات وأفكارها وتخيلاتها الذاتية. لعلّ تلك «الأجنبية» تغذّت من فكرة أنه عاش «أجنبياً» في مصر والعراق وسوريا ولبنان، قبل أن يعود في تابوت إلى الأردن. ولعل الكثيرين استبسلوا في الكتابة عن منعه من العودة إلى الأردن، ظانّين أن ذلك كان مرارةً يومية أو جرحاً مستديماً عانى منه غالب هلسا، بينما تقول رواياته أن إقامته في الكتابة كانت تتفوق لديه على فكرة العودة. كان غالب منفياً بصيغة ثيودور أدورنو عن المنفى الذي يجعل الكاتب والمثقف مقيماً في اللغة والكتابة. ولعل المكان الوحيد الذي أراد غالب العودة إليه هو القاهرة التي قدمت له تلك العوالم التي تقدمها المدن الكبرى والمتعددة الطبقات والأمزجة. مقارنةً بالقاهرة، كان باستطاعة غالب أن يقول إن بلاد الشام كلها لا تصلح لكتابة الرواية لأن العلاقات فيها ليست روائية.
هذه أفكار وخلاصات من بين انطباعات كثيرة كانت تبثها أعمال غالب التي أعدتُ قراءتها أكثر من مرة، ولكن قبل ذلك، قبل أن تنشأ تلك الصداقة الثمينة التي تصنعها الروايات والكتب مع القراء، حدثت مفاجأة غريبة في أحد تلك الأيام الطويلة والمضجرة في مسقط الرأس، حين رأيتُ اسم غالب هلسا في لوحة الإعلانات المثبتة على مدخل «المركز الثقافي». لا أتذكر بدقة عنوان المحاضرة التي كان غالب هلسا مدعوّاً لإلقائها، ولكنها لم تكن عن الرواية، بل عن شيء ما له علاقة بتاريخ الإسلام! أتذكر جرأته وسخريته في طرح أفكارٍ لم تكن مألوفة لجمهور تلك المدينة الصغيرة والبعيدة، ولكن المهم أن غالب هلسا كان هناك على المنصة، وأنه جاء بنفسه إلى المكان الذي بدأت فيه علاقتي بروايته الأولى «الضحك». كانت هناك متعة ثمينة وغريبة أن ترى الكاتب الذي أدهشتْكَ روايتُه يتحدث أمامك، وهو لا يعرف شيئاً عن ذلك، بل لا يعرف أن نسخة من روايته نفسها موجودة في تلك اللحظة على رف مكتبة «المركز الثقافي» الذي قطع مئات الكيلومترات من دمشق لكي يصل ويُلقي محاضرته هناك.