من الطقوس الكنسيّة استعارت لواء يازجي عبارة الوداع التي يتلوها المصلّون في نهاية صلاتهم. تحيل الشاعرة السورية عبارة «بسلام من الرّب نطلب» إلى الحياة الواقعية بكل مرارتها عبر استبدالها التضرّع، والطلب، بالدعوة إلى سلام يحملنا نحو المجهول لفهم مفردات الحياة الملتبسة. عنوان باكورتها الشعرية «بسلام من البيت نخرج» (الدار العربية للعلوم ناشرون) بمثابة توطئة لـ 26 نصّاً شعريّاً حملتها المجموعة بين دفّتيها. بهدوء وسلاسة، تمضي الشاعرة في قصائدها لاقتفاء أثر مفاهيم تقوم عليها الحياة، محاولة إعادة اكتشافها أو تعريفها من زاوية نظر مختلفة. كما لو كانت، في ما ترسمه من كلمات، تحاول إيجاد فضاء أكثر رحابةً يمكن لكاميرا سينمائيّة أن ترصد تفاصيله المتعدّدة المعاني، وتعيد تشكيله من جديد.

وبذلك يكون للانتظار، والشوق، والحب، والغياب، والقداسة، واليوميّ، معانٍ مختلفة، وتتلاشى المسافة بين الحلم والواقع: «لم أحلم يوماً بالطيران/ بينما أمسك أسناني المكسّرة بيديّ/ أسنانٌ، أسنانٌ/ ولستُ أحلم/ ولا أطير». هكذا تمضي قصيدة «كهنة» قبل أن تصل إلى سخريتها من عبث الحياة حين تقول: «الخلود، لكم يضحكنا عبث الحياة!/ لكن إيّاك والنّظر إلى أعيننا لحظتها ــ تماثيل ملح». تتخفّف يازجي من البلاغة لصالح لغةٍ عاديّة تسيل بإيقاع مشابه لإيقاع الحياة التي تعيد اكتشافها، حيث «أضواء الشارع لها رائحة الأدوية»، وحيث الانتظار يغدو فعلاً لا نتقن غيره «يفوتنا الأوان/ نموت مصادفة/ شبّاناً/ (وقد نهرم)/ إلا أنّنا نلتقي في الجنازة/ نلقي نظرة واحدة «عليه»/ نتوتّر بشبق/ وننظر إلى الأعلى/ وننتظر...». بذلك يكون الموت حاضراً طيلة الحياة. تحاول يازجي إعادة صياغة المفردات الشعريّة المتداولة بكثرة، مع إضفاء شيء من الخصوصيّة عليها عبر جعلها أقرب إلى البوح الذاتي، ما يسم كلّ قصائد المجموعة. صوت الشاعرة حاضر في كلّ مفردة، كما تحضر هواجسها لحظات السكون «يا ربّ ارحم/ إذ أميل برأسي على الوسادة/ فأرى السواد مجسّماً/ لا أنتظر نسيمك/ إني إذ أرى نور الصباح يعكّر رهبة الليل/ لا أفكر بقدرتك/ بل بقدرتي على التحمّل». وإذ تختلف قصائد المجموعة بعضها عن بعض من حيث الشّكل، فإنّ اللغة واحدة في جميع القصائد بما فيها قصيدة «نظرة خاطفة» التي أتت في الكتاب أقرب إلى قصائد الهايكو الياباني من حيث تكثيفها لفكرة كبيرة ومعالجتها بمقاربة شعريّة موفقة: «لا أؤمن بالله/ ولا يؤمن بي/ لايعدو الأمر أن يكون أكثر/ من سائق الباص/ الذي قد ينظر إليّ أحياناً من مرآته/ وهو يقود». وبينما تحضر (نا) الجماعة كضمير للمتحدّث في غالبيّة القصائد، الأمر البعيد في جوهره عن جوهر قصيدة النثر، فإنّ الأنا تحضر في بعض النصوص حين يقتحم الواقع حتّى تفاصيلنا الوجدانيّة، فارضاً مفرداته عليها كما في قصيدة «إليك يوم قلت لي».
تحضر رائحة السجّاد والصدأ وعلبة الخردة ومفردات يوميّة أخرى
هنا، يتخلّى الغزل عن مفرداته المعتادة فتختفي الأزهار والنسيم وضوء القمر، لتحضر رائحة السجّاد، والصدأ، وعلبة الخردة وغيرها من مفرداتنا اليوميّة «جملية أنتِ/ كرائحة السجّاد أوّل الشتاء/ أوّل شعور عميق/ لحظة انقطاع الكهرباء»، فالمحبّ هنا إنسان عاديّ، يحبّ محبوبته العاديّة «أحبكِ... كما أنا/ عاديّ/ يقول كلاماً عاديّاً/ يجد كلّ ما تقومين به عادياً/ يجدنا.../ لن نتكرّر يوماً». تتنوّع المواضيع عند يازجي كأنها بذلك تحاول، عبر القصيدة، الإحاطة بتفاصيل حياة تنسحب منها بلزوجة. مثلما تكون القلاع عند البحر «تزهر أحياناً/ ثمّ تعود إلى رشدها/ لتتأمّل برضى/ ما تسمّيه عقم الحكمة المكتسبة مع العمر». كذلك فإنّ «الهواتف غير المحمولة» تحمل عبر أسلاكها قسوة مغلّفة بستار شفيف من الرّقة: «أفرح بصوتك عندما أفتح الهاتف/ كمن يفتح باب البرّاد/ ليتعرّف على الجثّة». هي التناقضات التي تعتمل في الحياة لتخلق المعنى، فالقسوة تلازم الرّقة، كما يلازم النسيان الحبّ، ويلازم النزوح البيت، فتغدو الشرفات مطرّزة بأصحابها «فقط أولئك الباهتون/ أمثالي الآن/ ومن على شرفاتهم المطرّزة بهم/ يمكنهم أن يبصروا/ متأخراً/ أي وحدة كانت تدفع بنا/ إلى حدائق الشتاء المبللة/ إلى القطف المبكّر/ لأسئلة العمر الفجّة». في غمرة كلّ ذلك يحضر الرّحيل، وربّما يكون «النزوح» عن الأمكنة الحميمة، بكلّ وجعه المغلّف بالحنين، ما يجعل قصائد المجموعة على صلة وثيقة بما يحدث اليوم، بغضّ النظر عن زمن كتابتها. وبذلك تستعدّ يازجي للخروج من البيت بسلام، فالأطفال سيكبرون، وينسون «نسمع نشرة الأخبار تنبعث من كلّ بيت/ ونراقب/ عثّة صغيرة تتمختر في الهواء/ تحطّ على سجادتنا المفخخة ببقايا خبز يابس/ ونتكركر من الضحك/ نحن الأطفال/ الذين سنكبر/ نحن الأطفال/ الذين سننسى».