زمن الموت الممتدّ لـ 800 عام واصلاً إلى الحاضر فالمستقبل، يبدو مكثّفاً ومختزلاً في لحظة روائيّة يعمل الشاعر والروائي سليم بركات على تفكيكها في «سجناء جبل أيايانو الشرقيّ» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر). وإذا كانت «اللغة عدالةُ الفوضى، لذا تبتكرُ المحال» كما تقول دالومي، طبيبة النّفس، وإحدى سجينات جبل أيايانو الشرقي، فإنّ سليم بركات يتابع في عمله الجديد مسيرةً طويلةً من محاولة ترتيب فوضى اللغة، وابتكار المحال عبر مفردات العمل الروائي، حيث الزمن يخضع لنسبيّة اينشتاين جاعلاً من اللحظة اختصاراً للحياة الموصولة بالموت. يبتكر بركات في هذه الرواية فضاءه المكاني الخاص، ويعفي قارئه من محاولة إسقاطه على أمكنة يعرفها. مثلما يتكثّف الزمن في لحظة، كذلك يكثّف بركات المكان، ليغدو سجن جبل أيايانو الشرقيّ مفتوحاً على احتمالات أمكنة غير محدودة.إنّه «سجن جبل أيايانو الشرقي منحوت في حجره، من الجهة الجنوبية الأكثر انحداراً. سجن ممتد باتساع من الغرب إلى الشرق»، مسرح الأحداث الذي اجتمع فيه 18 قاتلاً، يواجهون عقاباً ملتبساً، يقضي بأن يعتذر كلّ منهم إلى ضحيته، فالأموات يجتمعون في قمة الجبل. لكنّ الحكاية ليست جرائم قتل مجرّدة وإن بدت كذلك. واذا اقترب بركات في حبكتها من الأسلوب البوليسي، إلّا أنّه مضى بعيداً في ممازجة الموت بالحياة، مربكاً قارئه باحتمال أن يكون كلّ إنسان قاتلاً في لحظة ما. قراءة السجون تبدأ من «صرير الأبواب في الزنازين»، لكن هل يعني الأمر أنّ بإمكان الأحياء التواصل مع الأموات؟ و«ماذا لو أنّ الموتى يرون جميع ما يفعله الأحياء، في علن أفعالهم وفي خلواتهم؟». القتل فعلُ تجريد، كما الأرقام والرياضيات. الأرقام المذعورة في الرياضيات، تكون متراخيةً في المعارك، ما يدفع ماهاهون (مدرّس الرّياضيات) للاستنتاج بأنّ «القتل تجريد، حين نقتل لا نرى القتيل. تنقلب الصور إلى فراغ مبهم، كالحال المبهمة التي لن يكون الوقت قبلها متصلاً بالوقت بعدها. ما من يقين، ما من شك في برهة القتل. لا خفة، لا ثقل لبرهة القتل. لا أبعاد للصور في برهة القتل. تقسيم، وجمع، وطرح، حاصلها الرقم ذاته -الصفر. بالقتل وحده، يغدو التجريد محسوساً، والمحسوس تجريداً. القتل رياضيات عَرفَ أوّل قاتل في تاريخ البشرية، جذور لوغارتمها قبل معرفة الأرقام». من هنا يبدأ بركات بتسليم القارئ مفاتيح روايته. الجريمة ملازمة للإنسان منذ نشأته الأولى. وعليه فإنّ أصوات الموتى لا تتلاشى، بل هي مسجونة في المسافة الفاصلة بين جبليّ أيايانو الشرقيّ والغربي وإن كانت «الأرانب لا تقدر على سماعه». لكنّ تلك المفاتيح لا يسلّمها بركات -على عادته- لقارئ كسول، بل يحتاج قارئاً يتقن فك الرموز كما يتقن ملء الفراغات بكل الاحتمالات الممكنة. يشبه البناء الروائي عند بركات لعبة الـ «سودكو»، فالحكايات لن تبلغ الغاية المرجوة منها ما لم يتم ترتيب الرموز بصيغة صحيحة. تحضر حكايات القَتلةِ كمحاولة منهم لفهم ما يجري حولهم. ومن هنا تكون العودة في كل حكاية يرويها قاتل، إلى ما يشبه الأساطير فتختلط حكايا الملوك بحكايا الأنبياء. إلا أنّ حكايات الآلهة والأنبياء هي ما تنتهي دائماً إلى مأزق، ما يدفع ميراس «الدليل» للتعقيب «إنها أصل كل حكاية منذ اكتشف الإنسان الآلهة المأزق» ويجعل بيتاليا (سائقة سيّارة الأجرة) تتذمّر معترضة «ملوك، وأنبياء، وطيور، وشعوب راحلة، وما لست أدري. أما من حكاية عن سيّارة أجرة؟».
يسوق بركات شخوصه إلى مصير يبدو رحيماً في ظاهره، لكنّه يتكشّف مع سيرورة الرواية عن عقاب أليم، حين يتماهى فعل الاعتذار من الموتى مع الإعدام. السجناء لم يكونوا غير قتلةٍ محكومين بالإعدام في لحظات هذيانهم الأخيرة مع سريان المادة القاتلة في عروقهم.
اللغة عند بركات فضاء مفتوح يحتمل أن يجعل من الزمان والمكان عنصرين ممتدين على مساحة جغرافية غير محدودة، لتبدو الرواية كأنّها تؤرّخ للعلاقة الأزلية بين الإنسان والقتل. بين الحياة والموت. بين الواقع والمتخيّل. وتقترب من أن تكون ميثولوجيا معاصرة يبتكرها بركات عن عالم تبدو كل حقيقة فيه ـ إذا أمعنت فيها ـ أقرب إلى الغرائبيّة. ومن هنا لا يكون فعل القتلةِ في خاتمة الحكاية، حيث خلعوا ثيابهم وصعدوا إلى الجبل عراة، هو النهاية، لكن ربما يكون البداية، أو اللانهاية المتعمّدة، وما هي إلّا دائرة من دوائر السلوك البشري.