يكاد تأثير رياض الصالح الحسين على الشعر السوري منذ أواخر السبعينيات، وبخاصة تيار القصيدة اليومية، يكون طاغياً على الجميع. ربما، لم يكن ثمة شاعر سوري بمنجى من تأثير رياض المهيمن. يصدق الأمر على مجايليه ومريديه على حد سواء. ومع أنّ هذا التيار انطلق بمحمد الماغوط، إلا أنّ ترسّخ هذه القصيدة وتكريسها، بحيث أصبحت القصيدة الأكثر انتشاراً في الشعر السوري (وبعض الشعر اللبناني)، كان على يد رياض.
بالطبع، ثمة عوامل أخرى، بخلاف قصيدته بذاتها، كانت سبباً مهماً في انتشار شعره، ليس أقلها وفاته المبكّرة التي بدت أشبه بطعنة مباغتة. أحد عناصر إغواء رياض هو أنه بقي، كحنظلة ناجي العلي، دون أن يكبر. الفارق أنّ حنظلة ابن عشر سنوات، فيما رياض ابن ثمانٍ وعشرين. وإذا أضفنا حياته المأسوية وأمراضه المتعددة، فستكون أمامنا صورة شاعر تماثل صور شعراء الرومانتيكية الإنكليزية.
وبطبيعة الحال، لا يمكن لهذه الحياة الهشّة أن تستمر حية إلى اليوم لو لم تكن مستندة إلى قصيدة قوية ومؤثّرة. بدا رياض ابناً لهذا العصر أكثر من كونه ابناً للسبعينيات، من حيث انتشار قصيدته إلكترونياً لا ورقياً. إذ لم تصدر أعماله الكاملة في نسخة ورقية بعد، برغم نشر ثلاث من مجموعاته الأربع عن وزارة الثقافة السورية، وهي الوزارة التي عملت لعدة أعوام في العقد الماضي على نشر الأعمال الكاملة لعدد من الكتّاب السوريين شبه المنسيّين. ومع ذلك، ربما لم يكن حضور قصيدة رياض سيتغير نقدياً، إذا تذكّرنا ضجيج المثقفين السوريين ومطالباتهم الحماسية لطبع الأعمال الكاملة لسنية صالح، لتبقى حبيسة أقبية الوزارة ومكتبات المثقفين أنفسهم بعد صمتهم.
لو كان حياً لتغيّرت خريطة الشعر السوري برمّته

كما كانت عليه الحال مع سنية، بل وعلى نحو أقسى، لم تظفر قصائد رياض بقبو منسيّ حتى، وبقيت مبعثرة إلكترونياً لولا جهود سوزان عليوان، وموقع «جدار» لصاحبه خلف علي الخلف الذي جمع أعمال رياض المطبوعة، إضافة إلى قصيدتين غير منشورتين سابقاً ضمن المجموعات. لا يزال شعراء السبعينيات في سوريا مجهولين في معظمهم اليوم، بالرغم من أنهم يشكّلون النقطة الأكثر ألقاً في مسيرة الشعر السوري، إذا استثنينا شعراء العقد الأول من الألفية الثالثة. بل إنّ هؤلاء الشعراء الجدد أنفسهم، ومعظمهم ابن لتيار القصيدة اليومية، كانوا، بشكل ما، أبناء لقصائد رياض الصالح الحسين، وسنية صالح، ودعد حدّاد. لعل اللافت في الأمر هو أنّ شعراء السبعينيات أولئك نتاج لوزارة الثقافة السورية، على النقيض من التيار المحافظ في اتحاد الكتّاب العرب. يدين الشعر الحر بالكثير من الفضل للعقليّة المنفتحة في وزارة الثقافة آنذاك، إذ تزامن ظهوره مع العقدين الأكثر نشاطاً للوزارة في السبعينيات والثمانينات فكرياً وأدبياً وفنياً. لا يمكن، عملياً، فصل انتشار شعراء القصيدة الجديدة في السبعينيات عن التطوّر المسرحيّ الهائل على يد جواد الأسدي وفواز الساجر، أو عن حركة التأليف والترجمة النشيطة على يد أنطون مقدسي، أو حتى النقطة الفارقة في تاريخ الفن التشكيلي عبر نذير نبعة ولؤي كيّالي مثلاً. كانت تلك السنوات هي لحظات «الانتصار» القليلة في مشهد الهزائم السورية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، لذا تمّ وأدها بقسوة، ومحاولة إخراجها قسراً من ذاكرة الأجيال التالية. انتصر ذلك الوأد جزئياً حين جعل أبناء ذلك الجيل، ومنهم رياض الصالح الحسين، منسيين لولا الحضور الافتراضي. بل كاد الوأد أن يكتمل في غياب رافد نقديّ موازٍ لتلك الإبداعات. ولكن في الزمن السوري الجديد، زمن الكلمات بين مزدوجين، زمن «الثورة» و«المؤامرة» و«المدنيّة»، زمن «ثورة آذار» مقابل «ثورة آذار» أخرى، عادت قصائد لرياض بذاتها، وبخاصة تلك التي تتحدث عن الثورات المزيّفة السلطوية، والثورات الصغيرة للمسحوقين، من دون أن تظفر تلك القصائد بدراسات جدية، بل بقيت أسيرة لغبار «لايك» كبديل من غبار الرفوف والأقبية في الزمن ما قبل - الافتراضي. يمكن القول بكثير من الثقة إنه لو كان رياض الصالح الحسين حياً لتغيّرت خريطة الشعر السوري برمّته. اثنان وثلاثون عاماً من غياب رياض تعادل صمت قرن بأكمله. استعاض رياض عن الانكفاء الجسدي في الصمت وضعف السمع بقصيدة هامسة تعادل ألف صرخة، واستطاع خلال سنوات معدودة قلب مسيرة الشعر السوري لعقود. ربما كان مصير الشعوب معلّقاً بمبدعيها: انهارت الانتفاضة الفلسطينية الأولى بعدما تخلّت عن حنظلة وأحلام الطفولة المجنونة، وليس مستبعداً أنّ وأد الانتفاضة السورية كان بسبب ابتعادها عن الهمس والدندنة، ولجوئها إلى الصراخ واستعارة أزمنة متكلّسة. لم يكن الفن ابناً لزمن الخلافة أو الديكتاتورية، بل كان مضاداً لهما بالضرورة. ولعل إحياء الفن السوري لمستقبل جديد يعني البدء بتلك الثورات الصغيرة التي غنّاها رياض لنا.