حسن م. يوسف *فذٌ في حياته وموته لا يشبه أحداً، لا أحد يشبهه. أطلق عليه الروائي الكبير المظلوم فارس زرزور لقب «الوعل الجميل». لكن الشاعر رياض الصالح الحسين قدم نفسه بطريقة أخرى في ديوانه الثاني الصادر عن «دار الجرمق» سنة رحيله 1982: «حارٌّ كجمرة/ بسيط كالماء/ واضح كطلقة مسدَّس/ وأريد أن أحيا/ ألا يكفي هذا/ أيَّتُها الأحجار التي لا تحبُّ الموسيقى؟». في طفولته، أصيب رياض بالصمم نتيجة خطأ طبي، فصار أبكم، ما حال دون إكمال دراسته.

وبسبب ذلك الخطأ الطبي، تشكلت هشاشة في كليتيه تقتضي أن يتجنب بعض الأدوية الشائعة. ولأن من نقل رياض الى «مستشفى المواساة» في دمشق عندما تدهورت صحته نتيجة الاجهاد، لم ينبه الأطباء لوضعه الصحي الخاص، لأنه لم يكن يعرف قصته المرضية أصلاً، فأعطوه دواء شائعاً يوصف عادة لمن يعانون من مثل حالته، ما أدى إلى وفاته نتيجة توقف كليتيه عن العمل.
كان والد رياض موظفاً بسيطاً من قرية بعيدة في شمال سوريا تدعى مارع، تتبع منطقة أعزاز تقع على بعد 25 كيلومتراً من الحدود السورية مع تركيا. لكن الأسرة لم تعش في تلك القرية، لأن والد رياض ظل طوال ثلاثة عقود يتنقّل مع عائلته بين المدن السورية، وقد صادف أن ولد رياض في مدينة درعا عام 1954.
كانت حياته
قصيرة ولكن حضوره سيطول

في الظروف العادية، كنا نلتقي مرات عدة في الأسبوع وغالباً ما كنا نسهر معاً. نتحاور على الورق في شتى الشؤون، لكن الغزو الإسرائيلي لبيروت وما تلاه، حد من لقاءاتنا نسبياً لأن رياض كان يعمل في مكتب للمقاومة، وربما كان الإرهاق هو الذي أودى به إلى المستشفى حيث توفي في مثل هذه الأيام عصر يوم الأحد 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 1982.
اجتمعنا صباح اليوم التالي، كنا بضع عشرات تتمثل فينا جهات سوريا الأربع: شعراءٌ، كتابٌ وصحافيون مدججون بالأحلام والبؤس. أدركتنا حرفة الأدب فافتقرنا.
ولأن الفلسطينيين لا ينكرون الجميل، فقد جاءت سيارة إسعاف من الهلال الأحمر الفلسطيني لنقل جثمان الشاعر الى قرية ذويه مارع. وقفنا بانتظار قدوم موظف البراد لتسلّم جثة الشاعر، رمقنا الرجل عقب وصوله بنظرة غير متعاطفة وسألنا بلهجة باردة: «معكم تابوت؟»
أدرك الرجل الجواب من نظراتنا الزائغة المندهشة، فأفهمنا أننا يجب أن ندفع 200 ليرة كتأمين كي نحصل على تابوت من المستشفى لأننا كنا جميعاً من المتبطلين وصغار الموظفين، فقد فضح صمتنا إفلاسنا. وللخروج من لحظة البؤس المخجلة تلك، أودعت بطاقتي الشخصية كضمانة وجئت بتابوت.
قال الموظف بنفس اللهجة الباردة: «أريد اثنين من أصحاب القلوب القوية». تقدمت وليتني لم أفعل. لم أكن أعلم أن اللحظة القادمة ستفرض نفسها كفلتر شفاف سأرى من خلاله كل لحظاتي المشتركة مع رياض الصالح الحسين ما حييت. كان رياض ممدداً في حوض حمام ملطخ وقد جرد من كل ثيابه، عدا سرواله الداخلي. ونظراً لمرور 16 ساعة على وفاته، فقد نفخته الغازات بحيث بدا كما لو أنه سيطير!
كان رياض يحب الحياة ويكرر في لحظات الاستئناس «الحياة حلوة»، لكنه كان يهجس بالموت بقوة لا يعادلها شيء سوى شهيته للحياة:
“أمس لم يسأل عني أحد/ زارني الموت ولم يكن على الرفّ قهوة/ ولأن الموت يحب القهوة مثل جميع الناس/ فلقد قلب شفتيه وصفق الباب وراءه/ ومضى في قطار العتمة».
وقد أشار رياض الى موعده مع الموت في واحدة من أواخر قصائده: «تُنبئني امرأة كبريتية/ فمها وكر للخفافيش والأسلاك الشائكة:/ زمنك المتقدم على قدمين من زجاج، سينكسر قبل أن يصلك». في السنة الـ 28 من حياته، خطف الموت رياض نتيجة خطأ طبي مجاني. مع ذلك، فقد أهلته تجربته الشعرية لأن يوصف بأنه «أحد أبرز ممثلي تيار ما اصطلح على تسميته لاحقاً بالقصيدة اليومية أو الشفوية».
زرته مرة واحدة في آخر غرفة استأجرها في حي الديوانية في دمشق. كان سعيداً كعصفور يتأرجح على الريح، وقد أسمعني بصوته الضائع المشتت أغنية فيروز «بكتب اسمك يا حبيبي» التي بقيت محفوظة في ذاكرته من أيام ما قبل الصمم. رياض الصالح الحسين، حياته كانت قصيرة، لكن حضور إبداعه سيطول.
* كاتب سوري