د. عبدالعزيز المقالح *
وحده من يفقد عزيزاً على القلب والروح يدرك كم سيكون العالم –بعد ذلك الفقد- موحشاً وكئيباً وبارداً وخالياً من كل لمعة فرح. ووحده الكاتب المبدع من يستطيع أن يحوّل هذا الفقد إلى كلمات تبكي بالنيابة عنه، وأن يحوّل زمن الأحزان إلى مساحة للتذكر والتدوين. وهذا بعض ما يقوله «كتاب محمد» («دار أخبار اليوم» ــ القاهرة) للكاتب اليمني الشاب جمال جبران الذي اختطف الموت شقيقه الأكبر محمد فكان عليه أن يعبّر عن مرارة الفقدان بهذا الكتاب البديع لغة وسرداً ومشاعر صادقة تستولي على القارئ من أول سطر في الصفحة الأولى من الكتاب إلى آخر سطر في الصفحة الأخيرة. هذا ما حدث معي تماماً، فقد حملت الكتاب إلى البيت بعد انتهاء فترة العمل، ووجدتني بلا مقدمات ولا تحضير أبدأ في القراءة ناسياً موعد تناول الغداء وبعض الإجراءات التي تسبق عادة هذا الموعد. وعندما جاءت حفيدتي الصغيرة لتنتزع الكتاب من بين يدي بعد ثلاث ساعات كنت قد شارفت على الاقتراب من صفحته الأخيرة.
بعض الكتابات تأسرك منذ الكلمة الأولى وتجعلك تغالب كل ما من شأنه أن يبعدك عنها أو يشغلك عن متابعتها. ويكون الأسر أقوى حين تكون للكاتب خصوصيته وفرادته في التعبير السلس المكثف، وغالباً ما يدخل هذا النوع من الكتابة في إطار ما يسمى بالسهل الممتنع وإذا ما تحقق للكاتب إلى جانب هذا الأسلوب الموضوع المؤثر والعالق بالوجدان فإن كتابته تغدو أكثر تأثيراً وقدرة على أسر مشاعر القارئ. ولا أبالغ إذا ما قلت إن هذين الشرطين –الأسلوب والموضوع- قد توفرا في كتاب صديقي جمال جبران: موضوع يلامس كل وجدان حي، وأسلوب يجمع بين الرهافة والانسياب ويكشف عن كاتب متمرس لم يتمكن عمله في الصحافة من أن يسرق منه هذه الطراوة وهذا التوهج في التعبير عن خوالج نفسه وعن هموم الآخرين. الكتاب ليس سيرة ذاتية لشقيقين فرّق بينهما الموت فحسب وإنما هو كذلك صورة تراجيدية لواقع المجتمع اليمني في الثلاثة العقود الأخيرة من القرن العشرين وفي العقد الأول من القرن الواحد والعشرين.
صورة تراجيدية لواقع المجتمع اليمني

هل أسمي كتاب صديقي جمال جبران سيرة ذاتية مبكرة أم مجموعة من ذكريات يسعى من خلالها إلى لملمة ملامح عالقة بالوجدان من أيام الطفولة واندفاعات أوائل الشباب وما رافقها من آثام مستحبة؟ الحق إنه –أي الكتاب- سيرة ذاتية بكل ما لهذا المصطلح من معنى. وهي سيرة ترسم ببراعة صوراً أو «بورترية» على حد وصف جمال لهذا العمل السيري الذي يجمع بينه وبين أخيه وأمهما زمزم المرأة العظيمة التي عانت كثيراً لا لكي يعيش هذان الولدان فقط بل ولكي ينالا حظاً متقدماً من التعليم. ومن الطبيعي أن يكون لهذين الشقيقين ألعابهما المشتركة وأن يكون لهما مع الحارة والمدرسة والبيت حكايات من الصعب نسيانها أو تجاوز مرارتها. بؤس وكفاح تحملت فيه الأم المسؤولية الكاملة قبل أن يشاركها فيها محمد الابن الأكبر بعد إكمال دراسته الجامعية، في حين أن جمال الذي يحب الانفراد بنفسه ظل منصرفاً للقراءة والانغماس في دنيا الإبداع الأدبي والتعلق بالسينما والفنون والانخراط في معارك السياسة. وقد ساعد على نجاح هذا التقاسم غير المتفق عليه في مجال العمل بين الأخوين ما تميز به جمال من شخصية متمردة، وطاقة على العناد ومن مواهب متعددة تبحث لنفسها عن فرصة سانحة للتحقق. ويذكرني هذا التقاسم بحكاية قرأتها في طفولتي عن شقيقين اتفقا في ما بينهما على أن يحمل أحدهما الفأس والمحراث ويحمل الآخر القلم والأوراق ليتحقق التكامل المطلوب في واقع العائلة، وهذا ما نلمح حدوثه في حياة الشقيقين محمد وجمال من خلال ما تحمله بعض الإشارات عن إعجاب محمد واعتزازه بما بدأ شقيقه يحققه من إنجازات في عالم الكتابة.
لا يخلو الكتاب/ السيرة من الاعترافات الصريحة، ولا من مواقف الندم الحارق على ما اقترفه جمال في حق أخيه وبقية أفراد العائلة، وهي اقترافات تمت في كثير من الأحيان بحسن نية. وما نلحظه أن محمد كان متسامحاً وحنوناً وصاحب قلب طهور لا يحمل سوى المحبة لأخيه وعائلته وللناس أجمعين، ولعل ما يدعو إلى التوقف هنا هو تصور استباقي لما قد يظهر من ردود فعل لدى القارئ الذي لا يدرك أهمية الاعترافات بوصفه –أي هذا القارئ- فرداً في مجتمع لم يتعود الصدق والوضوح في تعامله مع نفسه أو مع محيطه، وله أن يصطدم ببعض ما ورد في تلك الاعترافات. وربما يتساءل: لماذا يحاول الكاتب أن يعري بعض الجوانب الخفية من حياته؟ وهو تساؤل لا يصدر سوى عن بيئة متخلفة كما هو حال بيئتنا المحلية والعربية أيضاً. وهو ما تجاوزته الشعوب المتقدمة التي ترى في الاعتراف ضرباً من الاعتذار والتطهّر والتخفف من ثقل الأخطاء والخطايا الضاغطة على النفس البشرية السوية.
وفي ختام هذه التقديم الوجيز أود أن أشير إلى أنه من البديع والرائع أن يستقطر المبدع بعض التفاصيل الصغيرة والكبيرة من سيرة حياته وهو ما يزال في ريعان الشباب وقبل أن تهجم عليه الكهولة بمشاغلها أو تفاجئه الشيخوخة بأمراضها ونسياناتها. وهذا ما أقدم عليه جمال جبران في «كتاب محمد» الشقيق الأكبر الذي برحيله المبكر تتغير حياة شقيقه الأصغر وتجعله لا يسارع إلى تحمل أعباء كان الراحل يحملها عنه فقط، وإنما تدفع به إلى أن يعتكف في غرفة الأحزان يسترجع مخزون الذكريات ويدوّن ما يراه جديراً منها بالتدوين قبل أن يطمس الزمن الأتعس معالمها ويطويها ليل النسيان.

* شاعر يمني