ما أجمله ذلك الكتاب الأول، عندما تتذكره، فيُبعدك عن المكان الأخير. وإذا كنت لا تزال في المكان ذاته، فقد تغيّر زمانه! لتصير العلاقة هكذا: ما أجمله ذلك الكتاب الأول، عندما تتذكره فيُبعدك عن الزمان الأخير.والمحصّلة هي أن بين أيّ كتاب أول وأيّ كتاب أخير، ثمة أوهام تتبدد وحقائق تتجلى، حتى لا نتكلم عن جزر تولد وبلدان يأكلها الخراب! كم بلداً انهزم يا كتابي الأول، وكم صديقاً مات؟ هل حلّ المستقبل كما شئناه، أم تكشّف عن أسوأ نواياه؟ إذن، ما أقساه ذلك الكتاب الأول!

لا أدري لماذا أتهرب من الكتابة عن ديواني الأول «حافة الأرض» تماماً كما هرب مني خلال محاولات نشره. هرب مني بمعنى تحولاته أثناء إيداعه لدار النشر. لقد ظل الناشر يماطل، وأنا أنتظر وأذكّره أحياناً فيسايرني إلى مرحلة انتظار أخرى، حتى إذا صدر الديوان بعد سنوات عدة، وسألته لقد طالت المدة، يجيبني بابتسامة ماكرة: «نعم هو لم يصدر بسرعة لأنك لم تُحرجني كثيراً». يا إلهي! ماذا كان عليّ أنْ أفعل؟
وفي الأثناء، لم يعد ذاك ديواني الأول، فقد كنت أتسلل إلى المخطوطة في مرحلة الانتظار وأغيّر فيها. لم يصدر ديواني الأول إذن، ولا حتى الثاني. أتذكر أنّني قدمت الأول إلى اتحاد الكتّاب العرب خلال إقامتي في دمشق، وقبل انتقالي إلى بيروت بقليل. جاء الردّ بما يعني: يمكننا مساعدتك في النشر ضمن فئة «طُبع بعون من اتحاد الكتاب العرب». وهذا التعبير يعني أن الاتحاد لا يتبنى كتابك الأول لكنه يساعدك في نشره. أحسست أنّ كتابي سيصدر معوقاً. وتراخيت عن الفكرة، رغم أنّ ناشراً في بيروت أيضاً قال لي هات الدعم وسننشر لك الديوان! لكنني لم أفعل.
ربما كان هناك نوع من التعمد لهذا البطء من جانبي. كنت أبحث عن خلاص من قصيدة أكتبها تغلب عليها الغنائية والوزن، نحو قصيدة أكثر التصاقاً بتجربة شخصية، أقولها وتقولني من دون أن تأتي على لسان الآخرين، عرباً وأجانب، ولو بأسلوب مموّه صرنا نجيده مع تقدّم التجربة. ولعلّ الترجمة، شعراً ونثراً، قد بدأت تفعل فعلها في القصيدة الجديدة، من دون أن أدرك ذلك بطريقة واعية دائماً. وخصوصاً في طريقة إعادة اكتشاف المكان منذ حافاته الأولى.
بطء الناشر وبطئي جعلاني أصل
بالقصيدة إلى «مطارح شديدة
التنوع...»، كما قال الشاعر والناقد
الياس حنا الياس


كان «توسعي» في بيروت من خلال الترجمة. والترجمة تجعل الآخرين يرونك من حيث لا تنوي أنت أن يروك! لقد تحولت إلى مترجم «ممتاز»، قبل أن أنشر كتاباً شخصياً واحداً لي. لم يكن ذلك طموحي ولا طمعي، كان ذلك انزلاقاً مواكباً للسهولة، وللمردود المادي نسبياً.
ربما كانت الترجمة هي التي شفعت لي لدى الناشر حتى يجازف بنشر ديواني الأول، فقد التقط موهبتي الجديدة بعد صدور كتاب أول عن دار نشر أخرى ( «حكاية بحار غريق» لغابرييل غارسيا ماركيز)، فضلاً عن ترجمات كثيرة في جريدة «السفير» وفي ملحقها الأسبوعي تحديداً، ليكلفني بترجمة رواية «خريف البطريرك» لماركيز نفسه. إنها صخور أخرى تحجب كتابي الأول لكنها لا تجرّه معها حتى الآن. ظلّ الديوان في مخزنه لكنّ مضمونه يتغيّر ويتطوّر، خصوصاً أني اقتربت منه أكثر، وصرت مشرفاً على قراءة المخطوطات ومراجعة بعض الترجمات في الدار نفسها (دار الكلمة). مضمون الديوان تغيّر لكن شكل القصيدة أيضاً تغيّر. لقد تبنيّت قصيدة النثر نهائياً من دون أن يكون ذلك في كل القصائد. وحلقت أبعد مما أرى، أبعد من دمشق التي تغنيت بها وأبعد من بيروت وفلسطين؛ إلى حافة الأرض التي تعادل حافة الوجود، الكينونة، الولادة، الأرض الأولى، الرحم الأول. لكن بتجربة المتقدم في عمره وأسفاره وإحباطاته ونجاحاته. حافة الأرض إذن هي أرض الطفولة: بكائناتها ولصوصها وسحرتها ومفقوديها وظالميها ومظلوميها. أرض الغنائم الأولى وأصوات الصراعات الليلية.
كانت القصيدة بعيدة عن جمهور مفترض، عن احتكاك بالناس. لا أذكر أنني شاركت في أمسيات شعرية. تطورت القصيدة مكتوبة، مقروءة من بعض الأصدقاء، ومنشورة بعيداً عما يفترض أنه جغرافيتها الأصلية. وسوف يتواصل ذلك لاحقاً خصوصاً بعد إقامتي في قبرص.
في الأثناء، وبعدها، توالت ترجماتي خصوصاً في الرواية وفي الشعر أحياناً، لتسبق كتابي الشخصي الحقيقي الذي لا يدعمه أحد إلا خجلي (كما صرّح الناشر) والانتظار. ثم غادرتُ بيروت قبل أن يصدر الديوان. عايشتُ الحصار الإسرائيلي شهراً ونصف الشهر. وعندما بدأ الحديث عن سفن ستحمل المقاتلين إلى أمصار منها تونس، قلت فلأقصدها بالطائرة عبر الحواجز الاسرائيلية نحو دمشق، ما دمت حتى الآن لا أعاني من ملاحقة أمنية. أمضيت عاماً واحداً في تونس، وانتقلت إلى نيقوسيا للعمل ضمن مؤسسة «بيسان برس» التي كانت تصدر منشورات عدة أبرزها «الكرمل» و«فلسطين الثورة». في الكرمل، نشرت أغلب قصائد الديوان الذي لم ينشر، وكان قسم من تلك القصائد قد نشر في جريدة «السفير» أيام الإقامة البيروتية.
سوف تمضي ثلاث سنوات قبل أن يعلمني الناشر عام 1988 بصدور ديواني «حافة الأرض» بعد ثماني طبعات من ترجمتي لـ «خريف البطريرك»، وهو ما جعله يتبرع لي بمبلغ إضافي عن الترجمة لم أطلبه منه!
كان هناك خطأ فني جسيم في الكتاب، رغم خلوّه من الأخطاء المطبعية إجمالاً، فقد حدث سهو جعل الناشر ينسب الغلاف والرسوم الداخلية للفنان نفسه، والحال أنّ الغلاف كان للرسام الفلسطيني حسني رضوان، والرسوم الداخلية للرسام العراقي يوسف الناصر.
بطء الناشر، بل بطؤنا المشترك، جعلني أصل بالقصيدة إلى «مطارح شديدة التنوع ...»، كما قال الشاعر والناقد الياس حنا الياس في مراجعته للديوان في مجلة «اليوم السابع» التي كانت تصدر في باريس. وكان صداها مرضياً في تونس رغم أنّ قصيدة النثر لم تكن فرضت طريقاً واضحاً بعد، بينما سمحت لحرّاس القصيدة الموزونة بالاستدراك: «ديوان جيد لكنه ينتمي إلى قصيدة النثر...»، وأغلبهم التحق بها لاحقاً.
صعوبة نشر ديوان شعر (بدون أموال!) لا تخص شاعراً ينشر ديوانه الأول فقط. فلي حكاية طريفة مع ترجمتي لثلاث مجموعات شعرية في كتاب واحد بعنوان «حرية مشروطة» للمكسيكي أوكتافيو باث. إذْ رفضته ثلاث دور نشر بيروتية، ووافقت عليه بعد سنوات عدة، دار فتية، شبه مجهولة، فنال «على يديها» أي في الفترة نفسها، جائزة نوبل!
توالت مجموعاتي الشعرية لاحقاً: «امرأة سادسة للحواس»، «ليل الأجداد»، «ليل الأحفاد»، «رقصة الكونغرس»...، كما توالت الروايات: «توقيت البِنْكَا»، «شمس القراميد»، «مملكة الأخيْضَر»، «بيروت ونهر الخيانات»، «دانتيلا»، «عتبات الجنة». كما توالت الترجمات بفطنة أكثر إلى ضرورة العدل المادي.
كان هناك في البدء حدّ للشعر تمثّل في الترجمة. وسرعان ما لاح حدّ آخر أوصلتني إليه سرديّة القصيدة، وهو كتابة الرواية! حينذاك، لامني أكثر من صديق من الشعراء، لماذا لا تركز على صنف واحد؟ قد لا أكون أجبتهم بشكل مقنع، لكن ثلاثة منهم على الأقل فعلوا لاحقاً ما فعلت، وكان أولهم الشاعر عباس بيضون من لبنان. تخلّص شعري الأخير من السرديات – إلا نادراً أو في قصائد أردتُ لها ذلك - ولم تتخلص الرواية من شعرية اللغة بعد. لكنني أتوعدها بذلك فيما أكتب الآن.
يبقى أن الكتاب الأول، كتاب الحافة المستعصية، هو الكتاب الذي يخترق كل كتاباتي، ويركض بي إلى كل الأمكنة المرئية والخفية، مع صوت يهمس دائماً: «لقد أجّل القلبُ توهُّجَه في الكلمات التي تتفتّح إلى الأبد». وهي العبارة الموجودة في القصيدة الأولى من ديواني الأول.