خالد المعالي *وصلت عام 1976 للمرة الأولى إلى بغداد، زائراً، قادماً من قرية ليست بالقرية، فهي تتكون من بيتين طينيين فقط، وحيدين يقفان وسط أراضٍ مستوية وشاسعة تُزرع بالحنطة والشعير شتاءً، وتبقى جرداء عارية في الصيف. كنتُ أريد أن أصير شاعراً وكان عليّ من أجل إكمال هذا الشأن، أن أتعارف وأن ألتقي الشعراء الآخرين، في مقاهي بغداد الكثيرة آنذاك. مخطوطة كتابي الشعري الأول «كتاب الحافلة» الذي لن يصدر أبداً، جاهزة معي. وصلت بعد الظهر إلى العاصمة. وبما أني عديم تجربة في السفر، فلم يكن معي إلا ملابسي التي أرتديها ومشط شعر ومعجون أسنان وفرشاة. كنت أعرف أن عبد الوهاب البياتي يعمل في وزارة الإعلام أو الثقافة في شارع الجمهورية...

في العاشرة صباحاً، كنت عند عبد الوهاب البياتي من دون موعد مسبق بالطبع. قدّمتُ نفسي إليه، وكذلك مخطوطة ديواني من أجل أخذ رأيه بها. وبالطبع، كنتُ أريد معرفة رأيه وإن كان يمكن نشرها؟ كان لطيفاً جداً معي، وعدني بقراءة المخطوطة وأن عليّ أن أعود إليه بعد شهر. عدتُ إلى شارع الرشيد، حيث «مقهى البرلمان». هناك جلستُ كالآخرين، كنتُ أحياناً أرى وجوهاً ربما رأيت صورها في الجرائد لشعراء وكتّاب أو أشخاص يبدو أنهم هكذا! وجوه متأملة تشرب الشاي وتدخن بعمق أو لاأبالية، تقرأ الجرائد أو الكتب أو تتظاهر بذلك، تلعب الشطرنج أو تكتب أو تصحح أو تحاول أن تبدو كذلك.
كنتُ أعيش توهماً لشهرة،
فيما القملُ يهمي من شعر
رأسي على رقبتي
أيضاً، في صدر المقهى تجلسُ شخصية كأنها إمبراطور تائه، تتكلم بطريقة خاصة، فيها أداء مسرحي ما. ثمة طقوس لا تُخفى. في ما بعد، عرفتُ أنه يونس بحري. هناك العديد من هذه الشخصيات التي تعيش سنوات الذبول في هذا المقهى وغيره، إزاء لاأباليتنا نحن الشباب آنذاك. بقيت جالساً وحدي، مفكراً بأني التقيت أهم شاعر عراقي، وبالتالي فقد حرقت مراحل التعرّف أو الشهرة. كنتُ أعيش بذخاً داخلياً وتوهماً لشهرة، فيما القملُ يهمي من شعر رأسي على رقبتي وعلى ياقة قميصي.
من مقهى البرلمان إلى سوق السراي، ومن أجل الوصول إليه، كان عليّ أن أمرّ في شارع المتنبي الذي تملأه المكتبات والمطابع ومجلّدو الكتب، ثمة خطاط جالس على الأرض، في دكانة صغيرة ينتظر الزبائن، هل هو هاشم محمد الخطاط؟ لم أعد أتذكّر. كانت المكتبات عامرة بالإصدارات الجديدة من لبنان ومصر، وبالطبع بالإصدارات العراقية. «مكتبة المثنى» الأسطورية التي تشكل عالماً هائلاً من الكتب والإصدارات العربية من مختلف البلدان. كانت الحصيلة هائلة، حسب إمكانيات الجيب وحسب معرفتي آنذاك... لقد خطوت مرة أخرى خطوة كبيرة.
مذّاك، أصبحت زيارة بغداد تعني المرور الإجباري بشارع المتنبي وسوق السراي، وربما أحياناً الجلوس في «مقهى الشابندر» الذي لم يكن آنذاك سوى مقهى قليل الزبائن، مع مراوحه التي تئن ببطء. ذلك أن مقاهي شارع الرشيد سرقت الأضواء والزبائن بالطبع. ومع تكرار زياراتي وإقاماتي الطويلة في بغداد، أصبحت أيضاً ركناً وهمياً في هذا المقهى وغيره، في شارع المتنبي وسوق السراي. ضيق ذات اليد يدفع الواحد مثلي إلى اجتراح وسائل من أجل الوصول إلى الكتب: وهي سرقتها. عليك أن تكون خفيف الحركة. وصل ديوان أمل دنقل الجديد: «العهد الآتي»، كان ثمنه باهظاً لطالب قروي مفلس مثلي، حجمه صغير وقصائده مذهلة؛ «مسخ الكائنات» لأوفيد بترجمة ثروت عكاشة وبطبعته الفاخرة؛ «ديوان الشعر العربي» لأدونيس بمجلداته الثلاثة؛ «رأس المال» بمجلداته الخمسة. وحين صدرت مجموعة فاضل العزاوي الشعرية الجميلة «الأسفار» وهكذا...
عبد العزيز القديفي، صاحب مكتبة صغيرة وقرطاسية في السراي، يُراسل جريدة شهرية أو شيئاً من هذا القبيل، تصدر في النجف، وكان عليه تزويدها بالأخبار الثقافية من العاصمة، وهي ربما جريدة من الجرائد التي لا يقرأها أحدٌ. كان يطلب مني أحياناً ترتيب بعض هذه الأخبار، وكنتُ بالطبع أختلق له أخباراً فكاهية عن كتب وهمية لكتّاب أعرفهم يجلسون في «مقهى البرلمان» مثل خبر صدور رواية «الشاي الإضافي» لفلان الفلاني. ذلك أن سعر الشاي في «مقهى البرلمان» كان مرتفعاً، ربما 40 فلساً، ولكن سعر الشاي الإضافي 15 فلساً. وبحكم هذه العلاقة بعبد العزيز، كنت أحياناً أستدين مبالغ صغيرة منه، أحياناً أعوّضها بكتب مسروقة، أو أخرى هو يطلبها خصيصاً لزبائن يعرفهم.
عام 1977 والعام الذي تلاه، ازدادت الحياة حلكة، وانسدّت الأبواب بوجهي، تفرّق الشملُ، الأصدقاء؟ بعضهم تغيّر، بعضهم اختفى، بعضهم لا تراه إلا في الشوارع الخلفية. فجأة تغيّرت بغداد، تغيّر المقهى الذي أضحى يغصّ بالمخبرين، شارع المتنبي وسوق السراي، أحياناً نلتقي ببعضنا في «مقهى الشابندر» المهمل... حتى تركنا البلاد نهائياً، شخصياً خريف 1978. كتيبي الشعري الأول الذي أصدرته بداية 1978 «لمن أعلن دفتري؟» دون العودة إلى رأي البياتي، صدرَ كأنه لم يصدر.. الفاشية البعثية تخنق الأنفاس.
مشاهد شارع المتنبي، «مقهى البرلمان»، سوق السراي، عبد العزيز القديفي في دكانته، أمور بقيت تلاحقني في أحلام النوم واليقظة، لم تتركني ككل المشاهد العراقية ابداً. كانت تأتي وكنتُ كأنني أعيش منها، عليها، الحنينُ الذي يُمسكنا من الأزياق، يعيدها من جديد، تبدو كأنها صورٌ جرى تلوينها باليد، وبرز جمالها الأخّاذ. لم أكن أتصوّر أن هذه التفاصيل التي اُنتزعت مني ستعود! بعد رحلة من ألمانيا بالطائرة إلى دبي، ومنها بالسفينة لمدة ثلاث ليال، مع عراقيين تائهين مثلي، نزلت في ميناء أم قصر في البصرة نهاية عام 2003، ومنها بالسيارة إلى القرية قرب مدينة السماوة أولاً بعد فراق 25 عاماً، ومن القرية إلى بغداد، التي وصلتها بداية 2004، ومباشرة إلى «مقهى الشابندر» وبالطبع شارع المتنبي من جديد. عدتُ كأني فارقته البارحة، رغم أنه يبدو الآن ضئيلاً جدا، مثل بغداد التي تضاءلت كأنها قرية كبيرة. الوجوه معتمة. اختفى البعض، والبعض الآخر كأني كنتُ معه البارحة.
دائماً أعودُ بعد كل زيارة، بكتب قرأتها، في طبعاتها الأولى، أو أخرى سمعت عنها ولم أفلح في الحصول عليها، أو أخرى لم أكن أعرف أنها نُشرت أصلاً. وفي ما بعد حين أصبح لمنشورات «الجمل» بسطة فيها يوم الجمعة، كنتُ أتصوّر مع بعض مزوري كتبي وأشرب الشاي معهم، وأزورهم دائماً لكي اطمئن إلى صحتهم وإلى...
* شاعر عراقي وناشر «دار الجمل»