حين تحقّقت من قدرتي على إنهاء هذه الرواية استدنتُ ثمن بطاقات السفر. الآن أعرف أنها كانت هجرتي الأولى. وأن انفصالي آنذاك عن تلك البلاد أصبح ممكناً، بل وصار ملحّاً.لا أدري كيف ولماذا. إذْ كنت بدأت في كتابة «حجر الضحك» قبل أكثر من خمس سنوات من صدورها. كلّما عدتُ إليها كنت أعاود الكتابة من الأوّل. بسبب أني كنت أتركها حين نهرب من البيت، من البيوت المتعدّدة، وحين أعود إليها أجدها كسمكات الولدين الطافية على المياة الآسنة، ميتة. لم يكن ذلك باعثاً على الحزن لأنّي كنت في كل مرّة أعود إليها أجد أنّي تغيّرتُ كثيراً وهي بقيت على ما تركتها عليه. كأنّها تعدّت مدّة الصلاحية.

كنت أتركها حين نهرب لأنّ حمل الأوراق في أكياس النايلون كان بذخاً غير وارد، ولزوم ما لا يلزم من الأولويّات. لم أكن أنساها في هلع تجميع ثياب وحفّاضات وأطعمة وأدوية الولدين. بل كنت، وما أزال، لا أجد في الكتابة تلك الأولويّة الوجوديّة التي يتكلّم عنها الكتّاب. أتركها ولو أنّي متحقّقة من أني لن أجدها ثانية. كانت الأماني هي أن أجد ولو القليل من أغراض البيت، وبخاصّة أغراض الولدين التي احترقت أو تكسّرت تحت أنقاض البيوت العديدة. حتّى اليوم «كلّ» شيء في حياتي يأخذ مكانه قبل الكتابة. أقصد كلّ الواجبات.. الدنيويّة، تلك التي تعتبر تافهة. يوميّة وآليّة وميكانيكيّة وسخيفة. ربما لأن هذه «التفاهة» هي ما يمدّني بخفّة التحميل.
كان النقد سخيّاً جداً معي. أكثر
من المتوقّع، بسبب الجائزة آنذاك على الأرجح. لكنّ بعضه ذهب تقريباً إلى عكس ما تضمّنته الرواية

طالما كنت «أتكلّم» مع من حولي، لم تكن لدي في الكتابة أيّة رغبة. أصحابي كانوا يكتبون نصوصاً رائعة وكان ذلك كافياً، ومُبطلاً لرغبة الكتابة الجديّة. أعني تلك التي تذهب إلى «تنكّب» مسؤوليّة النشر. كنت كأنّي أكتب معهم ما يكتبون... ثمّ كانت كتابتي، حينذاك، للخلوّ بالنفس قليلاً، كأن أسمع الموسيقى التي أحبّها وحدي، أو كأن أملأ خانات الكلمات المتقاطعة. هكذا كنت أصدرتُ كتاباً بعنوان «زائرات»، نصوص قصيرة وقصص، بقي في هامش نشاطي «الوجداني» الأدبي، واكتفيت منه بمقال جميل كتبه بسّام حجّار. بسّام الشاعرالحبيب الذي تبادلتُ وإيّاه ثلاث أو أربع جمل على الأكثر. من خجله وخجلي. كان «زائرات» - الذي لم أجد يوماً ما يبرّر إعادة طباعته - تمريناً لا علاقة له بجوهر ما سوف يلي من علاقتي بالكتابة.
كان رضا، ابني، طفلاً عندما صار يحكي عن صديقه الخيالي «سعيد». قلنا في البداية إنّه التقمّص، متندّرين طبعاً. ثمّ صار عندي «سعيد» آخر يرافقني بإلحاح وأهجس به باستمرار. سمّيته «خليل». وكما ذكرت، كنت في كلّ مرّة أعود إليه أجده ميتاً. لم يبدأ خليل كلامه إلاّ حين توقّفت أنا عن الكلام. ذات صباح، تقريباً ذات صباح، لم أجد كلاماً أقوله لأصحابي. أو رغبة بالكلام، أو النقاش، أو الخلاف. كنت كأنّي مجروحة عميقاً منهم. ممّن؟ من الجميع. هكذا كأنْ بلا سبب. أو بلا سبب حقيقي. قرّرتُ أنّنا مختلفون على كلّ شيء. وأنّ سوء فهم فظيعاً يُخرجني من بينهم. إلى الصمت. لم أعد أتكلّم. ولم يخطر لي أن أعاتب أحداً لأنّي لم أكن أتبيّن غرض عتبي. لكنّ المعارك المحتدمة والمتواصلة لم تكن تتيح لي البقاء في البيت، لوحدي. كان علينا الهرب واللّجوء إلى بيوت الأصحاب... حيث ينبغي على الواحد أن يتكلّم، خاصّة في السّهرات بعد أن ينام الأولاد. آخر الهروبات كانت إلى عند آخر الشيوعيين، في الرميلة. الياس وابتسام. في بيت جميل ويتّسع للهاربين، وحديقة للهو الأولاد. بيت لمهجّرين كان ربّما الوحيد الذي أُعيد إلى أصحابه. عند آخر الشيوعيين كان الواحد علمانيّاً و... على شيء من الجمال... لا أجد تعبيراً ملائما غير «الجمال»... وهناك كان صوتي يختفي. أعني حتّى هناك. وهناك كان فقداني للقدرة على الكلام مؤلماً جداً، لا أعرف سببه. مخجلاً و... داعياً لليأس.
وراح خليل يزداد اقتراباً. كـ «رفيق» لي مثل سعيد، لا كشخصيّة روائيّة. الرجل الضعيف. كأنّي اكتشفت فجأة أنّ كلّ الرجال الشجعان حقاً من أهلي وأصحابي، هم ضعفاء وآيلون إلى التراجيديا. هي شجاعة الأبرياء المنكشفين الكاذبين وقد خسروا الحرب أمام القتلة منذ المعركة الأولى. لكن المكابرة رحمة... لم نكن أحداً. وغلبنا الجميع. الجميع غلبونا، وعلى كلّ الحواجز المسلّحة كدنا نُقتل. وعلى كلّ المعابر كنّا نكذب. وأمام أولادنا. وأولادنا راحوا يصبحون شيئاً فشيئاً ضحايا أولاد الآخرين. وحين راح رضا يردّد في السيارة شعارات سمعها من أفراد ميلشيا كان مقرّها تحت آخر شقة هُجّرنا إليها، التفتُّ إلى رضا على المقعد الخلفي... وما زلت من حينها إلى الخلف. فجأة حلّت عليّ الإعاقة. رأيت رضا شاباً. رأيته أمام الحاجز المسلّح. ثمّ رأيته خلف الحاجز المسلّح. وعرفت بأنه لن يكون هناك مكانٌ لخيار ثالث. سيكون من الضحايا أو من الجلاّدين. وأنا لن أحتمل أيّاً من الوضعين.
كنت أكتب مستعينة بخليل، أجرّب فيه ومعه، باحثةً في هذه البراءة المفقودة وفي احتمالاتها. حينها استقامت كتابة الرواية. كنت أريد أن أعرف وأصبح ذلك ملحّاً. وهذه المرّة حملت الأوراق معي من الشقّة المقصوفة التي هُجّرنا إليها من الضاحية الجنوبيّة إلى الروشة. كانت معي حين هربنا إلى شقّة مهجورة في صور. في صور، قالت عزّة التي أعارتنا شقّة أخيها المهاجر، قالت إنّها تستطيع تدبّر من يطبعها على آلة كاتبة لنرسلها إلى الجائزة التي أعلنت عنها مجلة «الناقد» في لندن. طبعها في ليلتين موظّف بنك من أصحابها. قيمة الجائزة ثلاثة آلاف دولار، ما أحتاجه لبطاقات السفر وأكثر. وأخذتني عزّة لإجراءات الجوازات. لكنّي غادرت البلد، من مطار دمشق - إذ كان مطار بيروت مقفلاً بسبب المعارك - غادرت قبل إعلان النتيجة ليلتحق الولدان بالمدارس في باريس... كنت نسيت الرواية تماماً. كان ذلك في العاشر من أيلول عام 1989
حين أُعيدت طباعة «حجر الضحك»، التي أكره عنوانها كثيراً، عدت إلى صياغة صفحات من الفصل الأخير كنت كتبتها بسرعة في صور تحت إلحاح مهلة الجائزة. استقبل الناس الرواية جيّداً، لكنّي كنت قد أصبحت في دُوار أوراق الهجرة. وفي البحث المضني عن عمل وعن سكن. وفي تدبير رفض الولدين لباريس وما فيها ومطالبتهما بالعودة. لم أتابع إذن «مستلزمات» نجاح الرواية. كنت في حداد رحيلي الذي كنت أعرف أنّه من دون رجعة. في مرارة لا يعوّضها شيء. ومرّة جديدة في حياة هي غير حياة «الأديبة» بالمرّة.
كان النقد سخيّاً جداً معي. أكثر من المتوقّع، بسبب الجائزة آنذاك على الأرجح. لكنّ بعضه ذهب تقريباً إلى عكس ما تضمّنته الرواية. في البداية، قلت إنّها قلّة حنكة ومهنيّة منّي أن يُخطئني النقد إلى حدّ مدح كتابة رمت إلى الضدّ. ثمّ قرّرتُ أن أعتبر نفسي غير «مفهومة» بسبب جدّة وفرادة كتابتي «الطليعيّة». فأن تنسج في تلافيف رجل مُثلي عربي، متحزّباً له، جاعلاً لعذاباته ووحشته سياجاً يرتفع به عن القصاصين الاجتماعي والديني، ومُبرّئاً إيّاه من تلوّثه الجنسي، بحيث يسقط أخلاقياً حين ينجح في التخلّص من مثليّته، من «عاهته»... كلّ ذلك، إلى جانب «اعتبارات» أدبيّة أخرى لم يكن سهل التقبّل... ثمّ وبقليل من التواضع، رحت أفكّر أنّ أحداً لم يكن سمع بوجودي برمّته، من المحيط إلى الخليج، قبل هذه الرواية. وأنّ عليّ أن أكون سعيدة بها. وصرت سعيدة بها...إلى أن دخل علينا كأنْ عنوةً رجلٌ آخر ... كنتُ قد بدأتُ كتابة روايتي الثانية «أهل الهوى».