مبارك وسّاط
على العكس من مستهل رواية كامو «الغريب» ( 1942) التي يقول بطلها مورسو: «اليوم، توفيت أمي»، جاء الجزائري كمال داود بعد 71 عاماً ليكتب في مستهل روايته «مورسو، تحقيق مضاد»: «اليوم، لا تزال أمّاً (أمي) على قيد الحياة». لم يكتفِ داود بذلك. بنى روايته كلها على «خطاب مضاد» لرواية كامو، من خلال خلق شخصية «هارون» شقيق لـ«العربي» الذي قتله مورسو في «الغريب»، ومنحه مهمة السرد الذي يمكن القول إنه رواية ما بعد كولونيالية، مشغولة بعناصر وتفاصيل تخص الهوية والآخر في حقبة الاستعمار الفرنسي للجزائر.
هكذا، سنعرف من هارون أن اسم شقيقه الأكبر هو موسى، فكيف حدث أن ظهر، فجأة، أخٌ للضّحية «العربي»، الذي عهده القرّاء على امتداد أكثر من 70 سنة – من خلال رواية كامو – بلا سمات مميّزة ولا اسم ولا عائلة مُحَدَّدة؟
يُجيبُ كمال داود نفسه عن هذا التّساؤل: « لقد وُلِدَتْ [تلك الفكرة] نتيجةَ التّضايق من سماع السّؤال نفسه من قِبَل الفرنسيّين: «هل كامو لكُمْ أمْ لنا؟ وهذا ما دفعني إلى أن أحاول، في مادّة نُشِرَتْ في زاوية صحافية، أن أتخيل الشخصيّة الأخرى، في المكان الممتنع عن الرؤية [في «الغريب]».

وقد شرح داود الفكرة أكثر في ذلك النص حين كتب: « كيف يا ربُّ يمكنُ لأحدٍ أنْ يقتلَ شخصاً وأنْ يسْلبه حتّى موتَه؟ إنّه أخي الذي تلقّى الرّصاصة! إنّه موسى، وليس مورسو... لا أحد، ولا حتّى بعد الاستقلال، بحثَ عن اسمه، ولا عن المكان الذي ينتمي إليه، ولا عمَّن تبقّى من عائلته... لا أحد. لقد بقوا جميعاً فاغري الأفواه إزاء تلك اللغة المتميّزة بالكمال وكلُّهم تقريباً أعلنوا مشاعرهم الأخويّة تجاه القاتل المنعزل... من هو موسى؟ إنه أخي. هذا ما كنت أريد أن أصل إليه. أن أحكي لك ما لم يتمكّن موسى قطّ من أن يحكيه لك، حياً أو قتيلاً...». ومن هنا تولّدتْ في ذهن كمال داود فكرة كتابة رواية تُعْطى فيها الكلمة لشقيق موسى.
في الواقع، لم يكن كمال داود أوّل من تنبّه إلى أن العربي في «الغريب»، بل عند كامو على العموم، يبقى بدون ملامح مُمَيّزة، فكاتب ياسين، في حديث إذاعيّ له، كان قد أوضحَ أنّ كامو، وإن كانت له مواقف أخلاقية ضد العنصريّة المفرطة تجاه الجزائريين، وضدّ اضطهادهم – علماً بأنّه كان ضدّ استقلال بلدهم – لم يُكلّف نفسه عناء التعرّف عليهم عن كثب، بل بقيت علاقاته الاجتماعية محصورة في نطاق فرنسيي الجزائر، ولذا فهؤلاء هم الحاضرون بشكل فعلي في رواياته.
رواية كمال داود تجعل من رواية «الغريب» منطلقاً لها، وتظهر فيها توازيات عدة معها. على سبيل المثال، نجد أن هارون أقدم أيضاً على جريمة قتل في يوم استقلال الجزائر، بحق فرنسيٍّ يُدعى جوزيف لارْكيه، ما جعل أمّ هارون تشعر بأن الثّأر الذي كانت تصبو إليه من أعماقها قد تحقّق: « إنّ لديّ، أنا أيضاً، أماً وجريمةَ قتلٍ على كاهلي. إنه القدَر. لقد قتلتُ، أنا أيضاً، تبعاً لأمنيات هذه الأرض، في يوم لم يكن فيه لديّ ما أفعله خلاله»، وسيُطلقُ سراح هارون بصورة بدتْ له هو نفسه غير معقولة، وتمّ الأمر ولا شكّ بدافعٍ من الحسّ الوطني المُضَخّم لدى العقيد الذي كان يُحقّق معه. مثالٌ آخر عن التّوازي المذكور، حين يتحدّث هارون عن مسألة الإله بصورة تذكِّرُنا بمورسو، فيقول: «الدّين، بالنّسبة إليّ، هو وسيلة نقل عموميّة لا أستقلُّها... أكره أيّام الجُمَع منذ الاستقلال...». ثُمّ إنّ الروايتين تُقدّمان لنا نفسيهما في صيغة مونولوغ مديد لسارديهما: مورسو في واحدة، وهارون في الثانية، وإن كان مونولوغ هارون يُذكّر، بقوّة، بذاك الذي يرد في رواية «السّقوط»، لكامو نفسه، إذ إنه يتمّ، أيضاً، في حانة، يُعاقر فيها الرّاوي الخمر، ويُسْلِس القياد لذاكرته وتصوّراته وأفكاره، ويتحدّث بغضب، رغم كونه قد أصبح شيخاً.
وصلت رواية كمال داود إلى القائمة النهائية لجائزة غونكور، وتضم إلى جانبه أسماء كاتبتين وكاتب آخر. وتبقى كلّ الاحتمالات واردة، حين يتعلّق الأمر بجائزة أدبيّة، كما هو معلوم. وقد حازتْ رواية كمال داود جائزة فرنسوا مورياك التي تمنحها الأكاديميّة الفرنسيّة، وجائزة القارّات الخمس للفرنكوفونيّة، التي يرأس لجنة تحكيمها جان ماري غوستاف لوكليزيو.
ما كتب في الصّحافة الفرنسيّة يشير إلى أن الجائزة هذا العام منفتحة على كلّ الاحتمالات، وكما ورد في العدد الأخير من ماغازين «لوﭘوان»: «إنّ التّكهّن [باسم الفائز] ستكون فيه مخاطرة!»... وإذا حدث أن تُوّجتْ رواية كمال داود، فستكون المرّةَ الأولى التي يحصل فيها كاتب من بلد عربي، غيرُ مقيمٍ في فرنسا، على جائزة غونكور، عن رواية له لم تُنشر في طبعتها الأولى في فرنسا، إذ إنّ «مورسو: تحقيق مضادّ»، نُشرتْ للمرّة الأولى في الجزائر العاصمة العام الماضي، عن منشورات «برزخ»، قبل أن يُعاد نشرها من قبل منشورات «آكت سود» في فرنسا في العام الجاري.
* شاعر مغربي