باريس | مع حلول كل خريف، يصاب الوسط الأدبي الفرنسي بحمى الجوائز الأدبية على رأسها «غونكور» التي تثير اهتمام النقاد والقراء على حد سواء. لكن، إذا كانت «غونكور» فعلاً أهم وأقدم هذه الجوائز على الإطلاق (أنشئت في بداية القرن العشرين بناء على وصية الكاتب ادمون دو غونكور)، فإنها تظل الأكثر إثارة للجدل وعرضة للانتقاد. لا يكاد يمر عام من دون أن تقع زوابع من السجال الساخن حول الرواية الفائزة بالجائزة بل حتى حول أسماء المرشحين. قد يعود السبب إلى كون الرهان يتجاوز حدود الحقل الأدبي ليصبح تجارياً محضاً. وبالفعل، إذا كانت القيمة المالية للجائزة بحد ذاتها رمزية (لا تتجاوز عشرة يورو)، فإن الرواية الفائزة تستفيد من مبيعات مهمة قد تصل أحياناً إلى 400 ألف نسخة. وبالتالي يصبح مفهوماً أن تفتح هذه الجائزة على مصراعيها شهية وطمع كبريات الدور الباريسية، التي بالمناسبة تتقاسم في ما بينها «جوائز» الخريف الأخرى.تميزت «غونكور» هذه السنة بترشيح روايتين لكاتبين مغاربيين، وهما المغربي فؤاد العروي، وإن اقتصر حضوره على القائمة الأولى، عن رواية «محن السجلماسي الأخير» (منشورات جوليار)، والجزائري كمال داود الذي ما زال في حلبة السباق بعدما اجتازت روايته «مورسو، تحقيق مضاد» (منشورات «برزخ» الجزائرية ثم «آكت سود» الفرنسية) الدور الأول.

تحكي رواية «محن السجلماسي الأخير»، وهي سابع عمل روائي لفؤاد العروي، قصة آدم سجلماسي، المهندس المغربي الذي يقرر فجأة تغيير طريقة عيشه رأساً على عقب أثناء وجوده في الطائرة التي تقله في رحلة عودة من الصين حيث ذهب من أجل إتمام صفقة بيع مواد كيميائية من صنع مغربي. «ما الذي أفعله هنا؟». أي بمعنى آخر كيف يعقل أنه يوجد على متن طائرة تسير بسرعة خارقة أعالي السماء في حين أن أباه وجده، اللذين قضيا كل عمرهما في سهول دكالة، لم يتجاوزا أبداً سرعة حصان يركض؟ هذا إذن السؤال المحوري والوجودي الذي طرحه آدم سجلماسي على نفسه وستترتب عنه مجموعة من القرارات المصيرية: الاستقالة من العمل، مغادرة الدار البيضاء، بعدما هجرته زوجته إثر قرار الاستقالة المجنون، والعودة للعيش في مسقط الرأس ومحاولة التخلص من الإرث الثقافي الاستعماري. باختصار، من خلال مغامرات بطل روايته، يحاول فؤاد العروي أن يرسم صورة للأزمة الوجودية التي تتخبط فيها فئة اجتماعية معينة، للتمزق الذي تعيشه هذه الفئة بين ثقافتين: ثقافة البلد الأصلي والثقافة الغربية.
سؤال الهوية طرحه أيضاً كمال داود في روايته ولو بأسلوب مختلف ومنظور مغاير. بالرغم من انتمائهما لجغرافيا مشتركة، إلا أن تاريخ الجزائر والمغرب الحديث يجعلهما مختلفين بعض الشيء: ذلك أنّ الجرح الذي أحدثه الاستعمار الفرنسي في جسد وروح الجزائريين يظل أكثر عمقاً من ذلك الذي خلفه الاستعمار نفسه في جسد ونفسية المغاربة.
تيمة الحرب تخيّم على
أعمال القائمة القصيرة ويكشف عن الفائز في 5 نوفمبر

الجرح الجزائري لم يندمل بعد بشكل كامل وما زال يطرح إشكاليات عميقة ليس للجزائريين فحسب بل للفرنسيين أنفسهم، طالما أن هذا الإرث الثقيل لم تتم تصفيته بعد نهائياً. كما لا يجب أن ننسى أن الجزائر عاشت في تسعينيات القرن الماضي حرباً أهلية دامية، دامت عشر سنوات حصدت مئات الآلاف من الأرواح وكادت أن تعصف بالبلد وبنسيجه الاجتماعي إلى الأبد.
في هذا الإطار، تأتي رواية «مورسو، تحقيق مضاد» كقراءة لتاريخ الجزائر وإعادة كتابة جزء منه ما دام داود يرتكز على إعادة كتابة ــ بشكل من الأشكال ــ رواية ألبير كامو الشهيرة «الغريب»، ومواجهة شبح هذا الكاتب الإشكالي. هذا ما سبق أن فعله مواطنه الروائي سليم باشي في رواية «الصيف الأخير لرجل شاب» (منشورات «فلاماريون»،2013) ومواطنه الآخر صلاح قرميش في كتابه «اليوم، مورسو قد مات - موعد مع ألبير كامو» (كتاب رقمي، «كندل»، «أمازون» 2013).
لا يمكن إذن قراءة «مورسو، تحقيق مضاد» من دون الغوص في رواية «الغريب» حيث يقتل مورسو الفرنسي، بطل الرواية، شخصية جزائرية لا يسميها الراوي بل يكتفي بنعتها بـــ «العربي». لنقرأ هذا المقطع الذي يلخص أجواء الرواية ونفسية مورسو من رواية «الغريب»: «تدفق الضوء على الفولاذ وكان ذلك بمثابة شفرة طويلة لامعة أصابتني في الجبين. في نفس اللحظة، سال العرق المتراكم في حاجبي بدفعة واحدة على جفني وغطاهما بحجاب دافئ وسميك. أصيبت عيناي بالعمى خلف هذا الستار من الدموع والملح. لم أعد أشعر سوى بصنوج الشمس على جبيني وبشكل غامض، بالسيف الساطع المنبثق من السكين دائماً أمامي. كان هذا السيف ينخر جفنيّ ويحفر عينيّ المتألمتين. في هذه اللحظة، ترنّح كل شيء. جرف البحر نفساً سميكاً وحارقاً. بدا لي كأن السماء انفتحت على كل امتدادها لتترك النار تمطر. توتر كل كياني وضغطت بيدي على المسدس. فارتخى الزناد، لمست البطن المصقول للعقب وفي هذه اللحظة، في خضم الصوت الجاف والمصم للآذان، بدأ كل شيء. زحزحت العرق والشمس. أدركت أنني حطمت توازن النهار، الصمت الاستثنائي لشاطئ حيث كنت سعيداً. أطلقت النار عندئذ ثانية أربع مرات على جسد جامد يغور فيه الرصاص دون أن يظهر عليه. وكان ذلك مثل أربع دقات وجيزة طرقتها على باب المأساة».
يظهر جلياً من المقطع أعلاه أنّ فعل القتل ينحصر في حوار بين مورسو وعناصر الطبيعة، خصوصاً الشمس، وأنّ الضحية، «العربي»، ليس سوى مجرد شيء من بين جملة أشياء، مجرد عنصر من عناصر الديكور. مورسو لا يطلق النار على «العربي»، لأنه شخصية شفافة، لا وجود حقيقي لها في ذهنه، بل يطلقه على الشمس التي يُعميه وهجها.
يبدأ كمال داود روايته، في تماهٍ مع كامو وتمايزٍ عنه في الوقت نفسه، بجملة على النقيض من الجملة التي تفتتح رواية «الغريب»: «اليوم، أمَّا (أمي) لا تزال على قيد الحياة»، في حين يبدأ كامو روايته كالتالي: «اليوم، توفيت أمي». ويكلف داود شقيق «العربي»، هارون، بمهمة الحكي، إذ نكتشف هذا الأخير داخل حانة في مناجاة طويلة يرد الاعتبار لأخيه، ضحية مورسو، ويمنحه اسماً (موسى) بعد أكثر من 70 سنة على حدوث واقعة القتل في رواية كامو. إلا أن هارون لن يكتفي بمنح أخيه اسماً بل سينتقم له بقتله لشخص فرنسي في الاحتفال بيوم استقلال الجزائر، ليتحول بدوره، طبقاً لمنطق رواية داود إلى قاتل على غرار مورسو: «كنت، يقول الراوي، أبحث في رواية «الغريب» عن آثار لأخي، فوجدت فيها انعكاسي، مكتشفاً أنني شبيه مورسو تقريباً». وإذا كان هارون شبيه مورسو، فرواية داود تكاد هي الأخرى تشبه رواية «الغريب». إذ تخترقها إحالات عدة لهذه الرواية ولأعمال أخرى لكامو. حتى أن أحد النقاد اعتبر رواية داود «نسخة جزائرية لـ «الغريب» وتكريماً ملفتاً للنظر لمثاله الأعلى، كامو». بل إن كمال داود نفسه يصرح بهذا الصدد: «دون أن يقرأوها، يظن كثير من الناس أن روايتي هجوم على «الغريب». لم يكن هذا ما سعيت إليه، فأنا لست مجاهداً سابقاً. سطوت على «الغريب» لأن كامو رجل يطرح أسئلة على العالم. أردت أن أندرج في هذه الاستمرارية ورغبت بشكل خاص أن أقوم بإشادة قوية لرواية «السقوط»، فقد أحببت هذا الكتاب كثيراً».
يمكن اعتبار «مورسو، تحقيق مضاد» كاستمرار لروح مجموعة كمال داود القصصية «مينوتور 504»، فمن «تصفية حساب» مع الاستعمار، تتحول الرواية شيئاً فشيئاً إلى تصفية حساب مع الجزائر ما بعد الكولونيالية، ومع السلطة وأوهام الاستقلال، ومع هيمنة الدين على المجتمع وخنق الحريات.
إلى جانب داود، تضم القائمة النهائية للجائزة كلاً من بولين دريفوس عن رواية «إنها أشياء تقع» (غراسيه)، ودافيد فوينكينوس عن رواية «شارلوت» (منشورات غاليمار)، وليدي سالفير عن رواية «لا بكاء» (منشورات سوي).
يظل فوينكينوس وفق النقاد الأوفر حظاً للفوز بالجائزة، لكن كمال داود قد يخلق المفاجأة. وقد استوحى روايته من أعمال وحياة الفنانة الألمانية اليهودية شارلوت سلومون التي قتلت في معسكر «أوشفيتز» سنة 1943. وأيضاً في أجواء الحرب العالمية الثانية، تحكي رواية «إنها أشياء تقع» هذه الحرب كما عاشها فرنسيّو الطبقات الراقية من قصور الريفييرا. أما رواية «لا بكاء» فهي ترحل بالقارئ إلى سنة 1936 غداة الحرب الأهلية الإسبانية وتحكي عن وقوف الكاتب جورج برنانوس إلى جانب الجمهوريين.
لم تعد اللغة الفرنسية «غنيمة حرب» كما قال كاتب ياسين ذات يوم، فهي اليوم ــ بحسب كمال داود ـــ «عقار شاغر، لا صاحب له، وضعت يدي عليه لكن دون عنف ودون حرب. علاقتي بالفرنسية علاقة سلمية». فهل ستثمّن لجنة تحكيم «غونكور» هذه «العلاقة السلمية» وتكافئها، على غرار ما فعلته «المنظمة الدولية للفرنكوفونية» و«أكاديمية فرانسوا مورياك»؟.
هل سيكون كمال داود العربي الرابع الذي سيحصل على «غونكور» بعد الطاهر بن جلون (1987) وأمين معلوف (1993) وعبد اللطيف اللعبي (نالها عن الشعر – 2009). الجواب سيعلن في الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل.