منذ اللحظة الأولى في مجموعته «فتوحات صباحيّة» الصادرة حديثاً عن «منشورات الحركة الشعرية في المكسيك»، يضعنا الشاعر اللبناني (المكسيكي) قيصر عفيف أمام إشكالية الشعر وعلاقته بالفكر. هو المعروف بإدارته مجلة «الحركة الشعرية» التي تعنى بالشعر الحديث في المهجر والعالم العربي. يفتتح مجموعته بإضاءة موجّهة إلى القارئ، يبتدئها بتعريف مختلف للصباح حيث لا يكون زمناً، بل «إنه كلُّ لحظةٍ تشرقُ فيها شمسُ الدّاخل، كلّ لحظةٍ تبدو فيها ظواهرُ الخارج على غير ما تُظهره الحواس. وحين تتحوّلُ هذه اللحظات الإشراقيّة إلى كلماتٍ تلبسُ أجساداً ماديّة، لكنها تخسر غِنى الباطن الخفيّ».
يمضي بعد ذلك في تعريفه المختلف للغة التي لم تعد صالحة في ظلّ سقوط كلّ القيم «سقطت الأديان، سقطت الفلسفات، سقطت الأفكار، سقطت الطّقوس، سقطت التعاليم والمعلمون، وسقط كل كلام عن الحرية والكرامة والسعادة وغيرها من الفضائل. لم يبقَ شيء، فماذا أقول واللغةُ لا تصلح؟». ومن ثمّ يمسك بيد القارئ ليدفعه إلى القصيدة التي لم تكتب لتقرأ كما تقرأ الكتب، بل كتبت لتكون أداة تغيير، وتحوّل بيد القارئ «عزيزي القارئ، لا تقرأْ هذه النّصوصَ كما تقرأُ الكتبَ. حاولْ أن تجدَ في النصّ ما يبدّل آفاقَ الدّاخل، ما يحول القلب الحجر إلى قلبٍ حيّ. إذا لم يحوّلك النصّ هنا، فارْمِ الكتابَ وامشِ في نزهةٍ أخرى». عند تلك النقطة، يفتح عفيف بوابة الشعر المفضية إلى 52 نصّاً لا عناوين لها. فالرقم كان كافياً كمفتاح لكلّ نص إمعاناً في تكريس فكرة «الباطن» التي شغلت حيّزاً كبيراً من النصوص.
تخيّم حالة من الصوفية من حيث السؤال عن ماهيّة الأنا
من لا يدرك الباطن، لن يدرك معنى العتمة والفراغ ولن يدرك آليات التسامح والعدالة: «مَنْ يعتنقْ حرفاً ويحاربْ آخَر/ أو مَنْ يعتنقْ لوناً ويحاربْ آخر/ تجرّه العتمةُ ويقعْ في فراغ المعنى/ يعِشْ في الصّدْع بلا سقف/ ويمُتْ في الحياة بلا قبر». ومن هنا يجد عفيف في معرفة الآخر بوّابة لمعرفة الذات، والمصالحة مع الواقع، والمقدرة على استبطان معنى الأشياء «لولا مصالحةُ الذات/ ومصافحةُ الآخر لما كانَ خروجٌ/ لما وجدتُ البوصلةَ/ ولما حصدتُ الكلمةَ الضائعة». بين مفرداته، ومحاولته الغوص في عمق الكائن البشريّ، والوقوف على مكنوناته، يبرز الزمن في شعر عفيف منفلتاً من الحدود، متخطيّاً حواجز الروح ليغدو امتداداً أبديّاً لا زوال له «والزّمان غبارٌ على مرآتي/ أمسحُهُ/ ينزلقُ/ يَعْبرُ إلى زمانٍ لا يزول/ ولا يهتزّ!/ إنّه البدءُ الأبديّ». والطريق إلى تلك المجاهل ليست سالكة للجميع، فما يعتمل في الباطن، لن يدركه من لا يتقن قراءة الرموز، وهو ما اعتمده الشاعر في هذه المجموعة، حيث الرموز تختلط وتتشابك في محاولة منها لنثر الضوء أمام قارئ يغوى التوحّد بالقصيدة، ليلج عمق الفكرة «لأنّه لا يقرأ الرّموز/ يظنُّ الجاهلُ/ أنّ المصادفاتِ ترسمُ الطّريق/ تخطُّ الحروف/ وتُسمِّي الأشياء./ تراه مُشتَّتاً/ مشوَّش البال/ مرشوشاً بالكوابيس». كلّ ذلك يقود الشّاعر إلى حالة من الصوفيّة من حيث هي السؤال حول ماهيّة الأنا، وآليّة الوصول إلى السكينة. المرآة تتكلّم في القصيدة لتشي بما لا يمكن البوح به إلّا أمام الذات «أظلُّ بِكراً، طاهرةً، نقيّةً، بهيّةً/ دائمة الاستعداد لقبولِ الجديدِ/ وحينَ تغيبُ كلُّ الصور/ وتسقطُ كلُّ الأشكال/ وليسَ ثمّة جديدٌ أعكسه/ كأنّ للأشياء وهْم الوجود/ فماذا تراني أرى؟/ آه، يا إلهي، ما أعذب هذا الصّفاء!». بهدوء، يمضي عفيف في فتوحاته الصباحية قبل أن يتخلّى عن الأرقام لصالح عنوان لقصديته الأخيرة الذي جاء مباشراً «الخاتمة»، كأنّه يبتغي من خلاله إيقاظ القارئ من العوالم التي أدخله فيها طيلة النصوص ليضعه على بداية طريق رسمها بتأنّ، فهل هي خاتمة الحكاية؟ أو خاتمة القصيدة؟ بالتأكيد، هي ليست كذلك. إنّها باختصار خاتمة الحياة، حيث الموت بوّابة مفتوحة على الحياة. وبذلك، تكتمل الفتوحات الصباحيّة لتكون شجرة الموت هي من يمدّنا بالحياة «كأنّنا مِن معْدنٍ هشٍّ زائفٍ/ وكأنّها مِن معْدنٍ أزليٍّ صلْب/ إنّها شجرة الموت/ وحْدَها تُقَلِّمُ أغصانها/ تُقَلِّمنا، أنا وأنتَ، لأننا أغصانها الكبرى/ تَقْطعُنا لنزداد حياة/ لنكبر، ونَنْمو في بُعْدٍ آخر”.