قبل حصوله على المنحة، كان ملص يدرس الفلسفة في «جامعة دمشق»، وفي الوقت نفسه يعمل معلّماً في إحدى المدارس. هناك، تعرّف إلى معلم فلسطيني اسمه فيصل درّاج، يدرس الفلسفة أيضاً، فنشأت بين الزميلين صداقة حميمة، استمرت إلى اليوم.سينمائي وفيلسوف مؤجّلان، هذا ما تكشفه سطور رسائلهما المتبادلة. في موسكو، كان السينمائي الشاب يعيش حيرة مزدوجة بين البصري والمكتوب، فيما كان الفيلسوف يتهيأ لمغادرة دمشق نحو باريس لاستكمال دراساته العليا في الفلسفة.

سينخرط محمد ملص في حياة موسكو الصاخبة، فيما يبدو درّاج مهموماً بمصير الماركسية وأقطابها، إذ يردّد في رسائله أسماء مهمة في هذا الشأن مثل جورج لوكاتش، وروجيه غارودي، وغرامشي. يخبره ملص في إحدى رسائله المبكرة بأن مكتبات موسكو منشغلة بكاتب كولومبي جديد اسمه غابرييل غارسيا ماركيز وبروايته «مئة عام من العزلة»، لكن درّاج يلح على صديقه بأن يرسل له في البريد كتاب «المنطق ونظرية المعرفة ووحدة الأضداد» للفيلسوف ب. كيدروف.
سيكرّر الاثنان مفردات مثل «السأم»، و«الغثيان»، و«الاغتراب»، تلك المفردات الوجودية التي كانت دارجة حينذاك، كما سيتكشّف هوس درّاج بالسينما، إذ يذكر أسماء أفلام شاهدها في باريس ويناقشها بجديّة، من دون أن يتخلى عن ماركسيته الصارمة في تحليل هذه الأفلام، ولن تهدأ روحه الغاضبة إلى أن يتعرّف إلى «إيزابيل» التي يُغرم بها بجنون وشغف، بعد حرمانٍ طويل.
لعل أهمية هذه الرسائل تكمن في جديّة أحلام ذلك الجيل وأوهامه في صناعة مستقبل مختلف، قبل أن تنهار القيم واليقينيات والأفكار تدريجاً، تحت وطأة قسوة العيش، والخروج من الكتب إلى تشوهات الواقع، أو «خيبة الأمل»، كما يقول دراج في إحدى رسائله المتأخرة، ويجيبه ملص بقوله «الهواء هنا يفقد شيئاً من أوكسجينه، الكثيرون يحسّون بضيق التنفس. وبين الأيديولوجيات المتعددة، تبدو فأراً أبيض في المختبرات، يحقن تارة ويستخرج منه لا ما يراد له. هل هذه أزمة التطبيق؟».
في منتصف السبعينيات، يعود ملص إلى دمشق، منهياً دراسته السينمائية، فيما يغادر درّاج باريس إلى بيروت، قبل اشتعال حرب المخيمات بقليل. يكتب الأخير بغضب غير مسبوق عمّا آلت إليه حال الكائن الفلسطيني المقهور، ثم يغادر إلى الإسكندرية، ومنها إلى روما، ثم يعود مرّة أخرى إلى بيروت منكسراً ومحبطاً وخائباً. يقول ملص: «إني كتلة باردة هرمة من دم يتخثّر، والأفكار هذيانات لدغتها الهزائم»، بينما يستعيد درّاج شذرات من هيغل ونيتشه وآلتوسير في وصف أحواله كفلسطيني في العراء، قبل أن يؤرخ رسائله اللاحقة (1977) من باريس ولندن، بشحنة إضافية من «التفكك والقنوط والخزي والغضب واليأس».
حالما ننهي قراءة هذه الرسائل نكتشف كم كانت أحلام هذا الجيل كبيرة وطليعية ومغدورة، وكم كان متعطشاً للمعرفة، وكم كان ينظر إلى الخلف بغضب.
«كلمات» حصل من محمد ملص على صور لهذه الرسائل التي سيعدّها للنشر في كتاب، وهنا نماذج منها:

موسكو 10/10/1968
صديقي فيصل!


بدأت أغوص في بحار مبهمة حيث أتوق إلى فراق الأشياء التي كانت مزروعة في داخلي. فقد غادرتني مدينتي، وتركتني مثقلاً بالأحاسيس اللزجة، وجعلت اللحظة الحاضرة تشبه إبرة الحاكي تنغرس بي، وتقول لي: إن هذه الطائرة، ذات المحركات الأربعة، تحملك الآن وهي لا تدري أتطير بك، أم بعد لحظات ستطير معها.
حين لاحت موسكو بوجهها الليلي المتعب، بدت لي كغول يفتح بطنه الكبير ويبتلعني، ثم أخذ لهاثه يبعث القشعريرة في جسدي، لكنه في الصباح أخرجني أرنباً في عالم من القطط. يعجز عن أن يفهم أي شيء من حوله، فلم يتبق لي بعدها إلا الحيرة. ها أنا يا صديقي أجول في شوارع موسكو! وبعدها لن يبقى لي إلا أن أقضي الساعات الطويلة بحثاً عن البيت الذي ننام فيه. يعود الليل، ثم يعود من جديد، فلا ينبعث في داخلي إلا صوت ذاك الارتطام الغامض. فأبدو كمكوك عتيق يسعى إلى أن ينسج شيئاً ما. لقد ثملت بالأحاسيس إلى حد جعلني لا أدرك أحاسيسي. قد يتوهم أحدنا أنه اكتشف نفسه وأنه «عرف ما يريد»، لكن ذلك يبقى رهناً بالارتطام الحقيقي مع العالم في مرجل الحياة الذي يغلي. عندها يعود ويرى أن ما عرفه عن ذاته، يترجرج في تلك الحرارة. فماذا ستفعل؟
تملكتني لحظة شوق غامرة للخلاص من ذلك الإبهام الذي استقبلتني به موسكو، لأبدأ بتذوق طعم هذه الغربة. فموسكو تستعد لاستقبال شتائها القاسي. تخفق للمرة الأولى في حياتي أمام عيني عصا المايسترو. فيتناهى صوت الضربة الأولى للموسيقى، وتتكاثف الأشياء وتتجمع دمعة في عيني، وتهب حبيبات القشعريرة على جلدي. إنه «بروكفيف» ويمحى من ذاكرتي دوران الأسطوانة السوداء. في رواية «الوضع البشري» لمالرو، ثمة صورة لذاك الألم الذي يشبه هذا الألم المتقوقع في داخلي وأحاول الخلاص منه، في الرواية يموت الأبطال، لكن لكل منهم ميتة خاصة به. الإرهابي العقائدي كيو يموت ويتحول جسمه إلى شظايا تلطم سيارة «تشاي كانشيك»، أما تشن الذي يعي أنه فقد نصفه الأسفل، وأن الشرطي المرتزق الذي يلكزه ككتلة لحمية مبهمة، فيتساءل: هل قُتل تشاي؟ يموت كيو! وتموت ماي بموت حبها. ويموت الأب بموت ابنه.. فلا يبقى إلا الألم من الوضع البشري.

■ ■ ■


تولوز (بلا تاريخ)
الصديق العزيز محمد!


أعتذر لتأخري في الكتابة إليك، والسبب هو الهموم اليومية، فقد رفضت دائرة التجنيد المصدّقة الدراسية وبذلك مزقت كل مشاريعي السابقة، واضطررت الى أن أذهب إلى باريس ومراجعة السفير والاحتجاج على هذا السلوك المرتجل.
وعلى هذا يا رفيق، فسأبقى في فرنسا خلال الصيف، وربما سأشتغل في حزيران وتموز وآب وأنتقل إلى جامعة «نانتير» في أول أيلول. جامعة «نانتير» تابعة لجامعة «السوربون»، وتقع في ضواحي باريس. وفي الحقيقة، فإن هذا التصرف الغبي اللامسؤول قد جعلني أكره دمشق والعودة إلى دمشق، على الرغم من أنني كنت أجتر ظل دمشق منذ أول الربيع. إن هذه الظلال العسكرية الغبية التي تجوب دمشق قد شوهت وجه دمشق، بل سملت العينين وقطعت الأنف. إن الإنسان الواعي يبدو كأرنب مذعور في هذه الصحراء من التفاهة والغباء، وأتعس ما في الحياة أن يرسم حياتك إنسان لا يعرف معنى الحياة.
كيف يحقق الإنسان ذاته في مجتمع ضيق؟
لا شك أن رحلتنا في الاغتراب لم تزل في بداية الطريق. بعدما غُصْنا في بحور الميتافيزيقا ومغامرات الدين، نعود لنرى هلوسات الفكر القومي وفراغه وأشكاله السمجة، ثم سئمنا من ترديدات الاشتراكية والإمبريالية، والحق أن جميع هذه الأشكال كانت ولم تزل تسير في بحر من التجريد والجهل، تهتم بكل شيء وتهمل الإنسان، الإنسان يطفو دائماً كنقطة ضائعة في مستنقع الإقطاع والبورجوازية ثم الظلال العسكرية. فالعسكري ذلك الإنسان الكاريكاتوري السميك اليد الفارغ الذهن الذي يفرز في مشيته وحديثه شكل البندقية، لا شك أنه بسطار العسكري يكسر القلم ويسحق الفكر. والآن ما علاقة الكلمة بالعالم؟
هل تستنزف الكلمة كل خصب العالم، أم أن الكلمة تشوّه شكل العالم وتقبع أمامه صامتة كسيحة؟ وهل كاميرا الفنان هي تجاوز للكلمة أم لا؟ وأيهما يصل إلى قلب العالم بحدة ووضوح أكثر؟ قلم الكاتب أم كاميرا الفنان؟ وبالنسبة للأسطوانة التي طلبتها سأرسلها لك في الأسبوع القادم، وأعتذر من جديد لتأخري في الكتابة. دمت لي أخاً ورفيقاً وصديقاً!
■ ■ ■


موسكو 20/3/1969
فيصل!


لست بورجوازياً. أتناول فطوري على عشب مانيه، وأقرأ تجربة الفكر البشري المعاصر، وهي تئن تحت ضربات مطارق عدة متفاوتة القوة دافعة الفلسفة إلى الرصيف.
ستظل الفلسفة محراباً ملازماً للإنسان؛ مهما تغير وجه العصر. أبداً لن تكون صليبه المرفوع على رؤوس صواريخ عابرة للقارات ... ولن تكون أفيوناً يخدر صراع الأبيض والأسود أو الإمبريالية والجوع أو حركة التحرر والصهيونية. البحث في الإنسان هو نقطة الأهمية الوحيدة المتبقية في وضع الفلسفة المعاصر. الآراء التي طرحتها في رسالتك حول العاطفة معتبراً إياها «شيء فيه كثير من البدائية والغباء» وحصرك لها «بالغريزة» ومفهومك المجرد حول «عاطفة حضارية تعانق بين الحب والحرية». تبدو لي على الرغم من أنه توصيف محدود، لكنه يسمو ويتألق إلى فكرة راقية للجمع بين الحب والحرية. فالعاطفة حقاً فردية، لكنها تتضمن في داخلها مستوى عالياً من الحس والإدراك، سواء للذات أو للآخر.. وهذا الإدراك في جوهره ليس إدراكاً عقلياً، بل شعور يرقى شيئاً فشيئاً إلى الحد الذي يصبح فيه سيالاً من الحس الذي يبحث للالتقاء مع مرآته. العاطفة شعور أن تحس الآخر، وأن تنسل إلى جوهره، أن تنشدّ إليه انشداداً يمزق الاغتراب عنه، وأن يحقق في داخلك وجداً شبه ميتافيزيقي. بدافع من الغريزة والحس الجمالي والقيم الاجتماعية، يتبلور هذا الوجد وينتقل إلى داخل الأنثى التي في داخلك. ثمة شبق إنساني في داخلنا للعلاقة مع العالم وكسر طوق الوحدة. أما العقل فليس له أكثر من دور وعي التجربة أو الكشف عنها. فالزمن ورتابة الحياة مسؤولان عن شحذ أو خمود العاطفة، وهذه حالة فردية تختلف مع اختلاف الشخصية. الأنا لحظة اليقظة، لحظة وعيها لذاتها، تثور للبحث عن جزيئياتها في الآخر. فيتخلق نوع من الشعور بالحب لهذا الآخر.. هذا الشعور هو وجد إنساني وهو انتصار الأنا على وحدتها.

■ ■ ■


باريس2/1/74
عزيزي محمد


يبدو لي أن الحوار معك صعب جداً، فهو ينتهي حال بدئه، وعندما يعود من جديد تكون تلك الجسور الأولى التي نصبت قد زالت وتهالكت، فنبدأ بنصب جسور جديدة سريعة الكسوف. لست أدري أهو عزوفك عنا أم كما يقال كثرة المشاغل. مع ذلك، فإني أحب أن أكتب إليك، فمن ناحية لا زلت أرى فيك صديقاً حقيقياً (هذا شعوري على الأقل) أرى فيه الكثير من نفسي، يتساكن فيه عالم قديم وعالم آخر يتجاوز هذا القديم، أرى فيك الماضي وتجاوزه أي الحاضر، عالمنا القديم، مدرستنا التي نسيت حتى اسمها، عالم التدريس المُكرَه، أحياؤنا القديمة، وصبي الكوّا وصحن الفول في الصباح، عالمنا القديم الذي كنا نسير فيه، في حين يسرح الخاطر والخيال خارج أسواره، البحث عن عالم آخر يبدو هلامياً وشفافاً، صعب التملك، لحظات ثرثرات قليلة تهدس بالفن وأرنست فيشر والاشتراكية والدون الهادئ. التكلم بقدسية وشوق عن مخلوقات نراها آلهة، في حين أن ما ألّهها هو ضحالة عالمنا المعيش، وليس قيمتها الحقيقية. كنا نعكس عليها بؤسنا وتمردنا الكسيح وأشواقنا وطموحنا كما يعكس البدائي صفاته المكبوتة والآسرة على إله صنعه هو من خيالاته، فليس الإله إلا محصلة الصفات الرائعة التي يملكها الإنسان ولا يستطيع أن يجعلها تمشي، فالتأليه تعبير عن العجز والبؤس، كأن ما خلف الأسوار إلهاً في حين كان عالمنا بلا تأليه، جسر الاتصال بين التأليه والوثنية هو الفقر والعجز. فنحن يا رفيق تلك الخيوط الهلامية التي خرجت من قفصها ثم ضاعت وتهالكت، فهي لا تحب العودة ويضنيها البعاد. آمل أن لا نقع على السور. أحوالي جيدة. أكتب الآن أطروحتي، أدافع عنها في 15 حزيران. نشرت مقالة بعنوان «الأدب والأيديولوجيا» في مجلة «الطريق» اللبنانية، كانون الأول 73؛ ومقالة عن ماركس والصهيونية في «شؤون فلسطينية». رأيت فيلماً سوفياتياً اسمه: الطائر الأبيض الملطخ بالسواد (أحسن فيلم سوفياتي لعام 1971) بنظري هو فيلم سيئ، تسيّد المخرج على الموضوع صفر. رأينا في باريس للمرة الرابعة «المخدوعون» لتوفيق صالح. فيلم مذهل رائع تكنيك الإخراج، يذكرني بفيلم سيدني بولاك: نحن نجهز على الأحصنة.
■ ■ ■


بيروت 24/1/1976
عزيزي ملص


دمت سالماً
لم أرك أو أسمعك منذ زمن. فأين موقعك الآن؟
أرسلت لك رسالة من إيطاليا فلم أتلقَ جواباً، فضاع اتصالنا كما تضيع الكثير من الأشياء.
بعد أكثر من سنتين من الرحيل والرجوع والضياع رجعت إلى بيروت. اشتغلت في
إيطاليا لمدة خمسة أشهر، شاهدت أشياء كثيرة وتعلمت اللغة الإيطالية،
وفقدت حس الاستقرار وحنين العائلة. تعيد الأيام إنتاج وإعادة إنتاج الإنسان فتختزل منه أشياء وتضيف إليه أخرى. تتراجع عوالم الطفولة كما تتراجع رومانسية زرقاء كسيحة ويتحول الإنسان أولاً بأول إلى شيء جديد، غير رومانسي ولا أزرق لكنه بالتأكيد واقعي.
يقول نيتشه: «عندما يطارد الصياد التنين يصبح تنيناً هو الآخر». أما التنين بالنسبة لي فهو الاستقرار والحصول على جواز سفر، والحصول على إذن عمل وإقامة، ورؤية الأهل والأصدقاء والمرور في المطارات دون أن أقف جانباً و...
عبر عملية المطاردة يفقد الإنسان أشياء عزيزة من نفسه. أشياء عزيزة
أسميها الآن أوهاماً أو أحلاماً بلا معرفة أو رؤية مثالية للواقع. لكن ذلك لا يعني أن يصبح الصياد تنيناً، بقدر ما يعني ضرورة أن يتخلّص الإنسان من التنين الذي يحمله في عقله وأعصابه وخيالاته: أوهامنا وأحلامنا الكبيرة.
لكل حلم زمانه، ولكل زمن حلمه. وأحلامنا كالفكرة المطلقة عند هيجل، تتكشف لذاتها شيئاً فشيئاً عبر الزمان، أي تتحقق ببطء وبالتقسيط. قيل لي ان صنع الله إبراهيم كان في بيروت، كنت أتمنى أن أراه. كما قيل لي انني «أنا» أخذت روايتك من دار ابن رشد ولم أرجعها، فذهبت إلى الدار وتبيّن أن الذي أخذها رجل يشبهني. أعمل في مركز الأبحاث (الفلسطيني). لماذا لا تزورني؟ هل أنهيت الجندية؟ هل أنت سعيد؟ هل عندك مشاريع جديدة ؟ هل صنع الله إبراهيم في دمشق؟
مع صداقتي
وفي انتظار اللقاء

للإطلاع على المراسلات انقر هنا