رغم العدد الكبير للجوائز التي نالها باتريك موديانو، إلا أنّ معظمها يدور في فلك المشهد الفرنكوفوني، مع استثناء «غونكور» بشهرتها العالمية التي نالها عام 1978 عن روايته «شارع الحوانيت المعتمة» (صدرت بالعربيّة عن «الهلال» - ترجمة محمد عبد المنعم جلال عام 2009). كنا نعتقد بأنّ «نوبل» ماريو فارغاس يوسا ستتكرر هذا العام، لتعيد بريق الجائزة الأهم، لكن اللجنة اختارت كسر التوقّعات على نحو متعمَّد، لتبدو الجائزة بمثابة جائزة تشجيعية.قد يبدو بأنّ هذا الكلام ينطوي على شيء من المبالغة، لأن الفائز هذا العام، كالعادة، ليس معروفاً لدى القرّاء العرب، لكن المفاجأة أن عدد الروايات المترجَمة لموديانو إلى العربية لا تقل عن مثيلاتها المترجَمة إلى الإنكليزية.


القضية ليست محصورة بفضاء «الجهل العربي» إذاً، بل إن «نوبل» هذا العام التي ذهبت إلى الكاتب المعروف بـ «فن الذاكرة الذي عالج من خلاله المصائر الإنسانية الأكثر عصياناً على الفهم، وكشف عالم الاحتلال» بحسب بيان اللجنة، مفاجأة للجميع.
لا نعلم الأصداء الفرنسية بعد فوز موديانو، لكن خيبة الأمل كانت عامة في الأوساط الإنكليزية والأميركية. مرت «نوبل» هذا العام مرة أخرى لتجعل فيليب روث الخاسر الأكبر في الجائزة التي أصبحت مناسبة للمقامرة السنوية. أما هاروكي موراكامي، فيبدو بأنّ نصيبه من «نوبل» سيبقى محصوراً بالترشيحات الدائمة رغم حضوره العالمي، بل ربما كان تجاهل اللجنة له هو بسبب هذا الحضور بالذات. كان فوز موديانو صدمةً أخرى لمن ينتظر نوبل «الجنوب»، إذ كانت سلة ترشيحات هذا العام تميل بشكل أكبر إلى كتّاب بلدان الجنوب، وبدا بأنّ فوز كاتب ذكر أبيض مشهور برواياته التي تصوّر تشظّي الهويات، صورة أخرى للمركزية الأوروبية التي لن تمل تكريسها المستمر في كل المناسبات. ليست «نوبل» بعيدة ــ بدرجة كبيرة ــ عن السياسة. كانت جوائز الخمسينيات والستينيات تتماهى مع التطوّرات السياسية، ولكنها أعادت هذا العام الأسطوانة المشروخة بعدم وجود أدب حقيقي خارج نطاق «الرجل الأبيض» رغم جميع الخيبات السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، والثقافية حتى في زمن «التمرّدات والثورات». انتصرت ما بعد - الحداثة على ما بعد- الكولونيالية لتكرّس الانحراف الذي طرأ على بوصلة الانتفاضات العالمية.
لا نعلم إن كانت روايات موديانو ستحظى بترجمات أكثر، إذ لم يكن حظ إليس مونرو صاحبة «نوبل» 2013، أفضل. لم تحظ أعمالها بترجمات أكثر أو شهرة أكبر، بل أصبحت مجرد فائزة سابقة. ربما ليس للقصة القصيرة من يقرأها في نهاية المطاف، لكن روايات جيل الحرب العالمية الثانية بدأت تفقد قرّاءها تدريجاً، حتى ضمن سلسلة الأسماء الأكثر رسوخاً. لم يعد للمحرقة النازية، والمقاومة الفرنسية، وستالينغراد، وحرائق لندن هذا البريق، بل انتقلت البوصلة في الجوائز الأخرى (تعبّر بصورة أدقّ عن اهتمامات القرّاء الفعليّة)، مثل «بوكر» البريطانية، و«بوليتزر» الأميركية، و«أورينج»، إلى الكتّاب ذوي الأصول غير الأوروبية أو الغربيّة: أصبحت الهند، الصين، أفريقيا، الموجة الروائية اللاتينية الجديدة «غير السحرية»، والشرق الأوسط محور الأدب الجديد، وليس تشظّي الهويّات، والنوستالجيا إلى زمن الحرب العالمية (البيضاء) الثانية.