وهنا تبدو أن اجتراح تلك الرؤيا وتكوينها، قادمان من علاقة الكاتب بالشعر، فمهمته طبعاً أن يعطي الإنسان تلك المساحة الواسعة بل تلك المسافة الضرورية لخلق مكانه الخاص في هذا العالم، وذلك المكان طبعاً روحيّ ومجازي وفي الوقت نفسه، حقيقي وقريب من كل شيء.
وفي تلك الرحلة الداخلية نحو عمق معناه، يشعر الكاتب بضرورة النفاذ إلى معنى الثقافة أيضاً التي يرى بأنها لا تكمن في القراءات ولا في عدد الكتب التي تؤلفها أو تنشرها في استدلال المعنى. وهنا يبدو أن أسئلته الشخصية في تكوين ذلك المعنى الخاص، قد أخذه إلى مكان آخر، حيث استطاع أن يكوّن رؤيته حول كل شيء حوله، فيقول إنّ «الثقافة هي في المجهول من الكلام لا في المعلوم منه».
يقول نعوم تشومسكي: «إما أن تكرّر التقاليد المتوارثة وتقول ما قاله أي شخص قبلك، أو تقول شيئاً حقيقياً ويبدو وكأنه قادم من نبتون». هكذا ينتقل الكاتب من ذلك المكان، الذي سمع فيه أشياء كثيرة وكانت اللغة وكأنها حجاب على فهمه لتلك الأشياء، فبدأ بالتفكير باللغة وبالمفردات، فالخروج من ذلك النفق، لا يتم بدون الخروج اللغوي العميق، فالخروج هو الخروج اللغوي أيضاً من ذلك المكان، لأن اللغة مكان أيضاً وهي مكان مفتوح على كل شيء. لذلك يتأمل الشاعر معناه الخاص من ذلك الوجود الذي يجعله يفكر بكل شيء ويبحث عن فلسفته الخاصة، ومعانيه التي يحددها هو كما يراها ويتأملها بعمق. يقول في خلاصة تستنبط فكرة كتابته التي شبّهها بالخلاص: «مشكلة كبيرة يقع فيها أحدنا ونحن على الحافة، كأن حبلاً رفيعاً يربطك بالخلاص، والذي يدور حولك هو نقطة النهاية، لا أمل لك كي تستخلص جنونك».
في هذه الرواية، تبدو الكتابة بحثاً طويلاً عن طريقة الوصول إلى ذلك المعنى، كأنها ليست فقط رواية تسرد ما حدث في الخارج، بل ما حدث في الداخل أيضاً. كأن الكاتب يود أن يجيب على سؤال: ماذا حدث لي على طول هذه الطريق؟
نتتبع معه داخل السرد، كل تلك الإشارات كأننا سنمر على محطات شكلته وكانت أساسية ومحورية في حياته، منها الطفولة، الأب والقراءات والشعر، فنكتشف أن للمعنى آفة، وانحناء، وبياضاً، وثباتاً وسكوناً. ففي بياض المعنى، نكتشف مثلاً معنى ذلك البياض وانعكاسه على معناه ولغته. يذهب إلى حواراته الخاصة مع أنطون سعادة ومع تشالز هانل، والشاعر الروماني القديم بوفيناليس الذي سأله: أنت يا سارق غايوس بوكيلوس ماذا جئت تفعل على هذه الكرة؟ وبعد الحوار معه يتوصل إلى ذلك المغزى بأنّ الشاعر لا ينفصل عن الإنسان داخله. وهي خلاصة جعلته يلاحق المعنى على طول الطريق وهو ما زال يفعل...
يذهب إلى حواراته الخاصة مع أنطون سعادة وتشالز هانل...
يمضي الشاعر في تأملاته العميقة للوصول إلى سكون المعنى، حيث يحاور أكثر من شخصية، مريم ومنار وأخريات، ليدرك أنه في ذلك السكون يفتح نافذة واسعة يحتاجها كي يكون وهي نافذة العزلة ونافذة الحياة. يقول في السطور الأخيرة على غلاف الكتاب: «وأنا على باب العمر الذي لا أستحقه، لم أتمكن إلا أن أحب أحداً يطير بروحي إلى أمكنة لا أفهمها، يسير إلى شط لا أدريه، يفهمني ولا أفهمه...كل ما أعرفه أني لا أعرفه».
في تلك المنطقة من اللامعرفة، في ذلك المكان الآخر المجهول، يطل نعيم تلحوق على الحياة من باب رواية تذهب إلى الأعماق لتلامس الأسئلة الخفية. هو هناك في ذلك المكان البعيد يراقب ما حدث معه، في رواية ربما تقترب من السيرة، لكنها لا تصف الأحداث ولا تدخل في حبكة أو حكايات، بل تظل نصاً مفتوحاً على التأويل يسافر إلى لغته الخاصة، ليكون رؤيته الجمالية الخاصة عن السرد والرواية. هكذا يلاحق الشاعر المعنى في وجوهه العديدة والمتعددة، ليكتشف أنه معنى هارب أيضاً، لكن ملامسته في لحظات جديرة بأن تجعله يطمئن لكي يسرد روايته الحقيقية الصادقة.