أهلاً بك في «كواليتي لاند»، أكثر البلدان تميزاً! مرحباً بك في «كواليتي سيتي» التي تتحقق فيها رغباتك التي تُمكّنك من الحصول على الوظيفة التي تناسب قدراتك، وعلى الشريك الذي يتلاءم مع تطلّعاتك العاطفية. باختصار مرحباً بك في الجنّة!«كواليتي لاند» (2017) رواية من تأليف الكاتب الألماني مارك ـــ أوفه كلينغ (صدرت نسختها العربية أخيراً عن «دار خان» ـ ترجمة هدى الخطيب) وتنتمي إلى أدب الديستوبيا. أدبٌ يتميز عادة برسم صورة قاتمة ومقلقة عن مجتمعات ذات حكم شمولي، لكنّ مارك ـــ أوفه كلينغ يثبت لنا هذه المرة أنّ الديستوبيا يمكن أن تكون كوميديّة أيضاً. حقّقت الرواية نجاحاً لافتاً، إذ فاق عدد قرائها المليون حول العالم. أما موضوعها، فيتمحور حول التطور الرقميّ الهائل والتقدم الكبير في تحليل ومعالجة البيانات اللذين يتسبّبان في تغييرات اجتماعية وسياسيّة كبيرة في أحد البلدان الغربيّة.


تجري الأحداث في «كواليتي لاند» أي «أرض الجودة» التي كانت تملك اسماً آخر في السابق (في إشارة إلى ألمانيا). لكنّ بعد فشل النظام على الصعيدين السياسي والاقتصادي، يقرر الخبراء تغيير اسم البلاد ومنحها صورةً جديدةً جذابةً، فبلدٌ يعجّ بأمثال هيغل وفاغنر وشوبنهاور لن يثير اهتمام المستثمرين في مجال التقنيّات العاليّة. حتى السكان أعيدت تسميتهم، وأصبح كل صبيّ يحمل مهنة والده كلقب، وكل فتاة تُكنّى بعمل والدتها. أما دروس التاريخ المُمِلّة والمثيرة لذكريات أليمة، فجرى إلغاؤها واستبدالها بأخرى عن المستقبل. كذلك أصبح هتلر وإيفا براون شخصيتين في مسرحية غنائية ناجحة، وموسوليني تحول إلى عاشق متيّم في إحدى الروايات الغرامية.
تبدأ القصة مع «بيتر العاطل عن العمل» الذي يعيش في «كواليتي لاند» أي «أفضل العوالم الممكنة» كما يقول الفيلسوف المتفائل ليبينيز، ولكنه لا يشعر بالسّعادة، ويعتقد أنّ شيئاً يسير على غير ما يُرام: إذا كان النظام مثالياً، فلماذا هناك روبوتات قتالية مصابة باضطراب ما بعد الصدمة؟ لماذا الآلات أصبحت أكثر إنسانية والبشر أكثر ميكانيكية؟ في الحقيقة، تخضع حياة الأفراد في «كواليتي لاند» للإشراف الكامل من قبل الخوارزميات التي تعرف كل شيء عن المواطن، فتُقدِّم له المنتجات التي تناسبه وفقاً لملفه الشخصي من دون أن يطلبها وتُسلِّمها له بواسطة طائرة «درون». كما تُحدد له الطعام الذي يجب أن يتناوله والشريك الذي يجب أن يواعده، وتستطيع أن تجعله يرى الحياة باللون الورديّ بفضل العدسات اللاصقة المتصلة بالشبكة. باختصار، إنها أرض الأحلام للجميع باستثناء عديمي الفائدة الذين يُعتبر بيتر واحداً منهم.
لماذا بيتر عديم الفائدة؟ لأنّ «كواليتي لاند» هي أرض النوعية حيث يتم تصنيف البشر إلى مستويات مختلفة وفقاً لرساميل متنوعة يملكونها مثل: الحالة الصحية، والمهنة، والدخل، والأصدقاء، ونوعية الجينات، والتفكير النقديّ، وروح الدُّعابة... كلّما اقترب مستوى الشخص من 100، تتم معاملته بشكل أفضل. أما إذا تدنّى مستواه عن 10، فهو عديم الفائدة. بيتر مُصنّف في المستوى التاسع، أي إنّه مهمش لا يتّم احتسابه. يحاول بطلنا التعايش مع الواقع، لكنّ الكيل سيطفح بين يديه عندما يتلقّى منتجاً لا يرغب به، عبارة عن دلفين زهري هزاز، فيقرر إعادته إلى الشركة. لكنّ المتجر الإلكتروني The shop يرفض تماماً عملية الاسترجاع، فخيار الرفض غير موجود أساساً في شروط البيع، وشعار المتجر الشهير هو: «نحن نعرف ماذا تريد». هنا يقرر بيتر أن يقود ثورة دونكيشوتية فيها شيء من قوة هوميرية ضد النظام القائم.
نتابع أيضاً تطور شخصية الروبوت «جون» الذي تُرشّحه الجبهة التقدميّة لرئاسة «كواليتي لاند» تحت شعار «الآلات لا تخطئ» ضد «كونراد الطباخ» المرشح الشّعبوي اليميني، لكنّ بعض الأعمال الإرهابية التي تقوم بها حفنة من المتمردين الغاضبين من سيطرة الآلات تعكّر صفو الانتخابات. الغريب أنّ الروبوتات في هذا المجتمع أصبح لديها وعي خاص بها، ووصلت إلى درجة من الغرور والثقة تجعلها ترفض الأعمال الغبيّة التي لا تروق لها وتتخلى عنها للبشر، لتتفرغ هي شخصياً للأمور التي تتطلب درجات عليا من التفكير والكفاءة. كما أنّ بعض الروبوتات أصبحوا أدباء مشهورين بعد تحليلهم لأذواق القراء ونسبة مبيعات الكتب. هكذا يدفع مارك ـــ أوفه كلينج لعبة العبث إلى أقصاها، على أمل أن يثور الناس ضد قيامة هذا المجتمع العجيب.
لا شك في أنّ الرّواية تمتلك ميزات عديدة جعلتها تُحقق هذا النّجاح العالمي، فـ«كواليتي لاند» تُقدِّم هجاءً ساخراً للمجتمعات الرأسمالية الحديثة والمعتمدة تماماً على التكنولوجيا، وهي تلفت بأسلوب طريف للغاية إلى النتائج الوخيمة للأتمتة وسيطرة الذكاء الاصطناعي على كل جوانب الحياة السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة. تنتقد النزعة الفردانية والنظام الاقتصادي القائم على الاستهلاك المفرط اللذين يميزان مجتمعات ما بعد الحداثة، فالقانون في «كواليتي لاند» يحظر إصلاح الأشياء المستعملة وإعادة تدويرها ويدعو السكان الى المزيد والمزيد من الاستهلاك الشره. تتميز الرواية أيضاً بالأصالة، وقد تمكن كلينغ من خلق عالم مستقبلي متماسك روائياً وقابل للتصديق، ونجح في ابتكار شخصيات مُتَّسِقة في سلوكها وأفعالها. كذلك اختار لغة ومفردات متوافقة مع الحقبة المستقبليّة التي تجري فيها الأحداث، فمنح الرواية بذلك وهم الحقيقة وجعل العالم الخيالي يبدو معقولاً.
هجاء ساخر للمجتمعات الرأسمالية الحديثة المعتمدة تماماً على التكنولوجيا


في المقابل، هناك بعض النقاط التي أضعفت قليلاً الرواية، كبطء الأحداث في البداية، حيث يقصّ الروائي تفاصيل عديدة عن كيفية تأسيس «كواليتي لاند»، وأساليب العيش في هذه الدولة الغريبة. النهاية متوقّعة نوعاً ما بالنسبة إلى القراء المعتادين على روايات الخيال العلمي. يمكننا القول أيضاً إنّ التبسيط المبالغ فيه لقضايا هامّة وتناولها بخفة يمكن أن يزعجا البعض الذي يبحث عن نقد أعمق وحلول مبتكرة لمواجهة سيطرة الذكاء الاصطناعي.
الخلاصة أنّ الكاتب الذي يتحلى بروح فكاهيّة عالية، أضاء في «كواليتي لاند» على مسائل حيويّة عن التكنولوجيا وسيطرتها على حياتنا، لكنه عكس لنا أيضاً القلق الذي يعتريه إزاء مستقبل الإنسانية والعالم الذي يتحول بشكل سريع بسبب التطور غير المسبوق في عالم الذكاء الاصطناعي، والذي بدأت إرهاصاته مع ظهور «شات جي بي تي». «كواليتي لاند» هي دعوة إذاً لأخذ الحذر من الكسل والإدمان على التكنولوجيا، وللحفاظ على القيم الإنسانية والحريّة الفرديّة، لأننا نطمح للعيش في أرض العدالة لا أرض النوعيّة.