ترجمة وتقديم: وليد السويركيتقدّم هذه المختاراتُ إطلالةً على تجربة الشّاعر الأرجنتيني روبرتو خواروس، الذي يُعدُّ واحداً من أبرز شعراء أميركا اللّاتينيّة والشِّعر المكتوب بالإسبانية في النصف الثاني من القرن العشرين. عاش خواروس حياة كاملة بالشّعر وللشّعر، بوصفه قدراً شخصيّاً وهوية وخياراً وجوديّاً، فشيّد على مدى عقودٍ صرحاً شعريّاً شاهقاً، شديد التفرّد، مناخاتٍ ولغةً وأسلوباً. ولعلّ الفرادة في تجربة خواروس الشعريّة تتمثّل في ملمحين أساسيّين: أولهما أنّه يكاد يكون أكثر شعراء أميركا اللّاتينية «أوروبيّةً»، بفعل تأثّره بالرّومنطيقيّين الألمان وانشغالاته الميتافيزيقية، من دون أن يحجب ذلك حضوراً ملموساً لروافد الشرق الروحيّة في نصوصه. وثانيهما أنّه امتاز عن كثيرٍ من شعراء القارّة بطبيعة شعره «المفكِّر» والمتجرّد من أيّ التزام سياسيٍّ. عبر خمس عشرة مجموعة شعريّة، حملت جميعها عنواناً واحداً هو «شعر عموديّ» (شعر عموديّ أوّل، شعر عموديّ ثان، وثالث، وهكذا...) وخلت قصائدها من العناوين فبدت كأنّها كلٌّ واحد متماسك، اقترح خواروس معماراً شعريّاً تنتظم فيه القصائد حول استعارة مركزيّة هي «العموديّة» بوصفها تمثيلاً للوعي الإنساني المتأرجح بين حتمية السقوط والنزوع نحو المتعالي: «في وقت باكر من حياتي، شعرت أن الإنسان ينطوي على ميل حتميّ إلى السّقوط. فلا بدّ أن يسقط الإنسان، وعلينا أن نتقبل هذه الفكرة التي لا تكاد تحتمل؛ فكرة الإخفاق في عالم منذور لعبادة النجاح. غير أنّه لدى الإنسان، بالتناظر مع هذا السّقوط، نزوع نحو الأعلى، يسهم فيه الفكر واللّغة والحبّ، وكلّ إبداع. ثمّة حركة سقوط وارتفاع مزدوجة لدى الإنسان إذاً، أشبه بقانون جاذبيّة متناقض. وثمّة بعد عموديّ بين الحركتين... والشّعر هو الشرط لاحتمال الهاوية، فمن دونه لا يبقى سوى الدُّوار والسّقوط».


هكذا، لا يعود الشّعر، عند خواروس، فنّاً لغوياً ومنتجاً جماليّاً فحسب، بل بديلاً للميتافيزيقا، يخلق المعنى ويضيء عتمة الوجود بسبره أعماق الأشياء، وارتياده المجهول الكامن في كلّ ما نتوهّم معرفته، من الكلام إلى الصّمت، ومن الضّوء إلى العتمة، ومن الحياة إلى الموت. وهو يرى أنّ مهمّة الشّعر تتجاوز الحفر في الواقع القائم إلى خلق واقعٍ جديد غايته إعادة توحيد الذات الإنسانية المتشظيّة، وأنّ على الإنسان، الذي خُدع وضلّل طويلاً وانقسم على نفسه بفعل الأعراف الاجتماعية والانشغالات المادّية، وأُضعفت قدرته على التخيّل والتأمل والرؤية بسبب الفصل بين الفلسفة والشعر، أنْ «يفكّر تارةً مثل عالِمٍ أو فيلسوف، وتارة أخرى مثل متصوّف، أو شاعر أو فنّان». أمّا الشاعر الحديث «فقدره أن يوحّد الفكر والعاطفة والخيال والحبّ والإبداع». ومن هذا المنطلق، كتب خواروس قصيدةً جمعت مقاربتين للوجود استقرّت الأعراف الأدبية على الفصل بينهما: الشّعر والفكر؛ قصيدةً انصهر فيها الاثنان في سبيكة واحدة، فلم تعد مجرّد قالب أو وعاء للفكر، بل ممارسة لغوية وفكرية وشعريّة تتجاوز الثنائيات الضديّة والتفكير الخطيّ وتخلق زمنها «العموديّ» الخاص الذي يكسر رتابة اليوميّ وأفقيّته، كلّ ذلك بلغة صافية ودقيقة، تنأى عن العاطفيّة المفرطة والصّور المحلّقة والوصف المسهب، مثلما تخلو من نبرة الاحتجاج أو التبشير الإيديولوجيّ. وللوهلة الأولى، تتبدّى قصيدة خواروس ببنائها الصارم ولغتها الحادّة، كمنحوتة صخرية ملمومةٍ على نفسها، مغلّفة بالقسوة حيناً أو بالبرود، لكنّ القارئ لا يلبث أن يجد نفسه فجأة أمام صدع صغير فيها، تطلّ منه نبتة خضراء تحمل زهرة المعنى، فإذا بالصّخر يشفّ ويشّع بالضوء والجمال. هذه التجربة في قراءة خواروس وترجمته، هي ما نقدّمه للقارئ عبر المختارات المحكومة، قبل أي شيء، بذائقة المترجم الشخصيّة وانحيازاته الجماليّة

كان يرسم النّوافذ في كلّ مكان؛
على الجدران الشاهقة،
على الجدران الخفيضة جدّاً،
على الواجهات الخشنة،
في الزوايا،
في الهواء وحتّى على السّقوف،

كان يرسم النوافذ كما لو أنّه يرسم العصافير؛
على الأرض، على الليالي،
على النّظرات التي نلمس صمتها،
على تخوم الموت،
على القبور وعلى الأشجار،

كان يرسم النّوافذ حتّى على الأبواب؛
ولم يرسم باباً قطّ،
فما كان يريد الدخول أو الخروج،
مدركاً أنّ ذلك غير مستطاع،
كان يريد فقط أن يرى: أن يرى،
كان يرسم النوافذ
في كلّ مكان.
■ ■ ■

فيما تفعل هذا الأمر أو ذاك،
هنالك من يموت،
فيما تلمّع حذاءك،
فيما تغرق في الكراهية،
فيما تكتب رسالةً مسهبةً
لحبّك الوحيد أو غير الوحيد؛



وحتّى لو استطعت ألّا تفعل شيئاً،
سيكون هنالك من يموت
وهو يجاهد عبثاً كي يجمع كلّ الزوايا؛
وهو يجاهد عبثاً كيلا يثبّت نظره في الجدار؛

حتّى لو كنت تموت الآن،
فسيكون هنالك شخص آخر يموت،
رغم رغبتك المشروعة بأن تموت حصرياً للحظةٍ؛
لذا، إذا ما سُئلتَ عن حال العالمِ، فلتُجِب ببساطةٍ:
«هنالك من يموت الآن».
■ ■ ■

العالمُ ثاني طرفين في استعارةٍ ناقصة،
تشبيهٌ ضاع أوّل عنصرَيه،
أين هو إذاً ما كان مثل العالم؟

هل طار من العبارة
أم نحن من يشطبه؟
أم أنّ الاستعارة مبتورة منذ الأزل؟
■ ■ ■

سلطانُ النسيان يجعلني أرى
كتابةً في السّماء
ودمعةً تولد على مهلٍ،

سلطان النّسيانِ يتيح لي
أنْ أسمعَك.
■ ■ ■

كلّ زمان ومكان يصلحان للقاء يدينا،
والليل يبدو، زماناً ومكاناً، مُعدّاً لذلك مسبقاً،
فالعتمة ليست عتمة ليديّ،
والعتمة ضوءٌ ليديكِ.
■ ■ ■

ثمّة نداءات تدعوني إليك
بينما أنت لا تناديني،
نداءاتك في الأمس
التي طفت على ماء الزّمن،
ونداءاتك في الغد
التي ربّما لن أسمعها غداً،
نداءاتك التي أخترع دون أن أدري،
حين تستشرس الوحدة،
أو نداءاتك
التي لا تأتي منك ولا منّي،
كما لو أنّ بيننا منطقة مستقلّة
تعمل لحسابها الخاص،
منطقةً لعلّنا خلقناها دون أن ندري
كي تقول اسمك
وربّما اسميَ أيضاً، دون حاجة إلينا.
على كلّ حال،
أنا محوط بنداءاتك، بدونك،
مثل جزيرة في البحر
أو برج في الرّيح العابرة،
فهل ستواصل نداءاتك دعوتي
حين نرحل كلانا؟
لا يحتاج الفم الفارغ إلى أحد
كي يواصل النّداء.
■ ■ ■

تودّين أحياناً
أن تبقي وحيدة في العالم،
فحتّى أنا تضيقين بي،
وحتّى أنت تضيقين بنفسك.

لا يكفي البقاء وحيداً،
ينبغي الذهاب أبعد:
أن يكون المرء أشدّ وحدة من ذاته.

ليس البقاء وحيداً؛ بل أن تكون وحيداً؛
أن تكون وحيداً حتّى في الكينونة،
أن تكون وحيداً إلى أن لا تكون.
■ ■ ■

بتلةٌ تسقطُ
فتلامس فكرتي،
وأفكاري إذ تسقط،
هل ستلامسُ هي أيضاً بتلة؟

ينبغي أنْ تسقطَ الأفكارُ والبتلاتُ معاً
كما لو كانت بعضاً من الوردةِ ذاتها
أو كما لو أنّها ستكون كذلك، ربّما، ذات يومٍ.
■ ■ ■

جمعٌ مهجورٌ
في كنيسة بلا أجراس،

قرب ساحةٍ مهجورة،
في فضاءٍ بلا ظلال،

بهذا المكان كلّنا يعبر
أو ينتهي، أو يبدأ.
■ ■ ■

كلّ يدٍ تحدّد موضع غيمتها في سماء مختلفة،
لكنّها تجدها ذات يوم في سماء الجميع،
عندها فقط، يمكنها أن تغدو ثانيةً
قطعةَ الأرض الموعودةَ
التي كانتها قبل أن تكون يداً؛
وعندها فقط،
تمطر غيمتُها فوقها.
■ ■ ■

من الداخل أو من الخارج،
ينبغي نصبُ سلّمٍ،
لا يهمّ ممّ صُنع،
ولا إنْ كان يصعد أو يهبط:
فالصّعود والهبوط دائماً ما يلتقيان،
ثمّ إنّ ما في الأعلى في الأسفل أيضاً،

المهمُّ ألّا يصاب المرء بالشّلَل
في هذا الجزء الهامشيّ من الهاوية.
■ ■ ■

محتشدٌ بالرّيح الجرسُ
مع أنّه لا يدقّ،

محتشدٌ بالتحلّيق الطيرُ
مع أنّه لا يتحرّك،

محتشدةٌ بالغيوم السّماءُ
مع أنّها وحيدة،

محتشد بالصّوت الكلامُ،
مع أنّ أحداً لا يقولُه،

كلّ شيء محتشدٌ بالهرَب
مع أنّه ما من دروب،

كلّ الأشياء تهرب صوب حضورها.
■ ■ ■

الكلمات التي تسمّيني!
لكنّ كلّ الكلمات تسمّيني
حين أحسنُ الإصغاء إليها،

والآن عليّ أن أتعلّم قولها
كي يشعر آخرون أنهم يُسمَّوَن
إنْ حدث وسمعوها؛

نحتاج إلى جميع الكلمات
كي نسمّي إنساناً،

والآن ليس سوى أن أواصل،
بدوري، هذا الاحتفال.
■ ■ ■

الثلاثةُ لا تُشبِه الأربعة،
لكنّ هذه الأخيرةَ تحويها،
الحياةُ لا تشبه الموت
لكنّه يحويها،
أنت لا تشبهني
لكنّني أحويك؛

ربّما يجدر تغيير الاحتمالات،
فتحوي الثلاثةُ الأربعة،
وتحوي الحياةُ الموت
وتحويني أنت،

أو يساوي الكلُّ الكلَّ
فلا يحوي شيءٌ شيئاً.
■ ■ ■

يقلقني حين أنام
احتمال ألّا أجد نفسي حين أستيقظ،
لكنْ يقلقني أكثر احتمال أن لا أجدكِ،

يقلقني حين أنام
احتمال أن نُستبدل أثناء نومي،
لكنْ يقلقني أكثر احتمال ألا يعرف أحدنا الآخر
عند يقظتي،

يقلقني حين أنام
احتمال ألّا يعود شيء يطابق شيئاً
عند اليقظة،
حتّى أنا وأنت،
لكنْ يقلقني أكثر بعد
أن يُمحى ماضينا
فلا نكون، أنا وأنت، قد وجدنا قطّ.
■ ■ ■

البحث عن شيء
يعني دائماً العثور على شيء آخر؛

لذا، للعثور على شيء ما،
ينبغي البحث عمّا ليس هو،

أن نبحث عن الطائر كي نجد الوردة،
أن نبحث عن الحب كي نجد المنفى،
أن نبحث عن اللاشيء لنكتشفَ إنساناً،
ونذهب إلى الخلف كي نتقدّم.

فسرُّ الطريق في الطّبع الحادّ
لاتّجاهه المزدوج،
أكثر مّما هو في تشعباتِه،
بدايتِه الافتراضية أو نهايتِه المشكوك فيها،


إنّنا نصل دوماً،
ولكنْ إلى مكان آخر،

كلّ شيء يمضي،
ولكنْ بالمقلوب.

(*) قصائد مختارة من كتاب صدر حديثاً بالعنوان نفسه عن «دار خطوط وظِلال»، عَمَّان.


قالوا عنه
رينيه شار: «روبرتو خواروس شاعر حقيقيّ عظيم»
أوكتافيو باث: «هو شاعر اللحظات المطلقة العظيم».
خوليو كورتاثار: «منذ وقت طويل لم أقرأ قصائد ترهقني وتثير حماستي، في آن، مثل هذه».
روجيه مونييه: «أنا أعدّ روبرتو خواروس واحداً من أعظم الشعراء في أميركا اللاتينية وفي عصرنا، بلا شك».
ألكسندر بيثنتي: «هذا شِعر ذو شفافية لاهبة».
فيليب جاكوتيه: «منذ السّطور الأولى، نسمع صوتاً مختلفاً، حاسماً، حادّاً وصارماً».


في سطور
روبرتو خواروس (بوينس آيرس ــــ 1925-1995). درس الأدب والفلسفة في «جامعة بيونس آيرس»، وتخصّص في علوم المعلومات والمكتبات. أسّس مجلة «شعر= شعر» وأشرف عليها بين عامي 1958 و1965. اضطرّ لمغادرة الأرجنتين إلى المنفى في عهد الديكتاتور بيرون، فعمل خبيراً لدى اليونسكو في بلدان عدة في أميركا اللاتينيّة. ترأّس قسم المكتبات والتوثيق في «جامعة بوينس آيرس» بين عامي 1971 و1984. حاز العديد من الجوائز الأدبية، منها: «جائزة الشّعر الكبرى» التي يمنحها «اتحاد كتاب الأرجنتين»، و«جائزة جان مالريو» الفرنسية، و«جائزة بينالي الشِّعر الدولي» في لييج (بلجيكا). تُرجمت أشعاره إلى أكثر من عشرين لغة. إلى جانب مجموعاته الشعرّيّة، أصدر عدداً من الكتب التنظيريّة والحوارات حول الشّعر منها: «الإخلاص للبرق»، و«الشِّعر والإبداع»، و«الشِّعر والواقع»، و«شذرات عموديّة». نشر مجموعته الشعريّة الأولى بعنوان «شِعر عموديّ أوّل» سنة 1958، على نفقته الخاصّة، وكان عليه أن ينتظر عشرين عاماً قبل أن يعثر على ناشر أرجنتينيّ حقيقيّ، إذ أصدرت دار Lohlé مختارات من أشعاره سنة 1978. حظي منجزه الشعريّ بتقدير شعراء وكتّاب من طراز أوكتافيو باث، وخوليو كورتاثار ورينيه شار، وغيرهم وبات محطّ عناية ودرس وترجمة في مختلف اللّغات، فتكرّس حضوره عالميّاً بوصفه أحد كبار شعراء العصر.