لا بد لنا في بادئ الأمر من النظر في استقبال الفكر العربي لترجمات حنّة أرندت. في هذا الشأن، كتب أستاذ التاريخ في «جامعة تورنتو» المختص في الشرق الأوسط، نيس هانسن، مقالاً شديد الأهمية بعنوان «قراءة حنة أرندت في الشرق الأوسط: ملاحظات أولية في الشمولية والثورة» (مجلة الدراسات الفلسطينية ـــــ العدد 95، 2013). تتبّع هانسن في هذا المقال، الاستخدام الغرضي لأفكار الفيلسوفة، رغم رفضها القاطع لهذه الصفة. في زعمها، إنّ الفيلسوف هو الشخص الذي «يعرف أنه لا يعرف شيئاً» وفقاً للمعلم اليوناني سقراط، وبالتالي ليس لديه ما يُعلمه للآخرين. وكان سؤال الباحث الرئيس: «لماذا تستحضر أرندت في خدمة قضايا هي محل نزاع، ولم تتواتر العلاقة العربية مع أفكارها إلا مع اشتداد النزاعات؟ الصلات الأولى كانت غير منتظمة، فأولى الترجمات قام بها خيري حماد عام 1964 لكتاب «رأي في الثورات» (أعيد طبعه عام 2011). وفي عام 1974، ترجم عبد الرحمن بوشناق عملها «بين الماضي والمستقبل: ستة دروس في الفكر السياسي» (أعيد طبعه عام 2014). ويشير هانسن إلى أنه في ربيع عام 1983، قدّم قسم الفلسفة في الجامعة الأميركية في بيروت مساقاً للدراسات العليا بعنوان «تأملات فلسفية معاصرة في استخدام العنف السياسي» كُرّس لأعمال أرندت الرئيسة، نسقه المُدرس الأميركي فينس دولان. من دون أن نُدخل نظرية المؤامرة في صلب السرد، يتساءل الكاتب (بخبث) عن السبب الذي دفع البروفسور الشاب (آنذاك) المقيم منذ عام 1980 في لبنان، لأن يُعلم في بيروت «الغربية» ويمكث فيها أعوام الحرب القاسية. ويطلعنا أنه في عام 2017، قدّم المعهد الإيراني للفلسفة في طهران، إبان حكم أحمدي نجاد، مساقاً للدراسات العليا عن أرندت بإشراف الأستاذة الأميركية الزائرة، نورما موروتزي. وتقول هذه الأخيرة إن الطلبة شهدوا بأمّ أعينهم عقم إصلاحية خاتمي: «كانوا يتوقون إلى دراما سياسات الشارع وفوريتها». ومن ثم أتى انشغال المثقفين العرب اللاحق بأفكارها حول التوتاليتارية والثورة والعنف والسلطة بسبب ما أسماه هانسن «انقشاع» أوهام بعضهم حول الماركسية، فتحولوا «نحو نموذج من النقد أشد تأملاً»، فهاجروا من ماركس إلى ابن خلدون وإلى أرندت، أي ذهبوا من النقد الخارجي إلى النقد الداخلي. تتالت الترجمات وأكثرها نُشر في بيروت: «في العنف» (1992)، «أسس التوتاليتارية» (1993)، «في الثورة» (2008)، «أيخمان في القدس» (2014)، «ما السياسة؟» (2014)، «الوضع البشري» (2015)، «حياة العقل - التفكير» ( 2016)، «حياة العقل - الإرادة» (2017 )، وهذه الأعمال في مجملها تغطي ميادين تفكيرها وانشغالاتها العملية.


وبين أيدينا ترجمة جديدة لعملها الذي حمل بالعربية عنوان «التفكير الحر» أنجزها مالك سلمان (دار الساقي) والترجمة الحرفية من الإنكليزية تقول: «التفكير من دون درابزين ـــ محاولة في الفهم 1953 ـــ 1975» Thinking without a banister : essays in understanding المنشور عام 2018 بإشراف وتقديم جيروم كون (J. Kohn)، ورعاية القيّمين على تراثها الفكري، وهو يشرح بعض سياقات أفكارها والمناخ العام الذي هيمن على القرن العشرين الذي أثّرت فيه عميقاً.
الكتاب المذكور عبارة عن مجموعة من الدراسات والمقالات والمقابلات والخطب والرسائل والمداخلات والردود، وُضعت في مناسبات وأزمان متباعدة. لكنّ المسألة السياسية والسلطة والثورة تقع في قلبها، وبالتأكيد قضية الحرية، وقد قدّمت فيها معنى جديداً للحياة السياسية في زمن أزمة المجتمع الحديث. فداخلت في «الانعتاق» والثورة وشروطها ومعناها، والشمولية والحرب الباردة وفي الدولة القومية والتقليد والقيم والأخلاق، من دون أن تنسى توجيه التحية لأستاذها ومرشدها، الفيلسوف الألماني الأشهر مارتن هايدغر «في عامه الثمانين».
ولدخول عالم أرندت، من المفيد نقل قولها حول «التفكير من دون درابزين»: «عندما تصعد وتنزل الدرج يمكنك أن تتمسك به كيلا تقع. لكننا فقدنا هذا الدرابزين. أنا أفكر بهذه الطريقة. وهذا ما أحاول أن أفعله في حقيقة الأمر».
تتحدث أرندت هنا عن الفهم والحكم من خلال الذات من دون الاعتماد على «المقولات المتصوّرة مسبقاً». هذا ما قصدته بعبارة «التفكير بدون درابزين» (من دون شيء نستند إليه) كما فعل نيتشه في «هكذا تكلم زرادشت»، إذ رأت أرندت أن فقدان المعايير المميّز لعصرنا يمثل أزمة وفرصة في الوقت نفسه. عندما يفكر المرء بدون تحديدات، فهو يفكر من دون الرجوع إلى مقولات الفكر التي لا جدال فيها. وعندما يحثنا نيتشه على الشك بنحو أفضل من ديكارت، فإنه يحثنا على التفكير من دون عوائق، ومثل هذا التفكير خطير لأنه يجب أن يكون فوق الخير والشر وبالتالي بدون الرجوع إلى «الأخلاق».
إن اهتمام أرندت بالتفكير الذاتي لازمها مدى عمرها، ويعود على الأقل إلى وقت عملها مع أستاذها هايدغر. أعلنت في مؤلفها «الوضع البشري» (1958) عن اهتمامها «بالتفكير في ما نفعله». مع ذلك، فإن تأملات أرندت الأولية والأكثر شمولاً حول التفكير جاءت إلى درجة كبيرة من تجربتها في محاكمة أدولف أيخمان (1961). لقد صُدمت في القدس بالدرجة التي كان فيها أيخمان إنساناً عادياً - ليس سادياً - ولا حتى معادياً للسامية بشكل خاص. وجدت أنّ ما كان محورياً بالنسبة إليه هو عدم تفكيره. والتحدي الذي تضعه لنفسها ولنا جميعاً هو إعادة تعلم فن التفكير.
رغبت المُنظرة السياسية في رؤية «الشر المحض» (الجذري بتعبير كانط الذي استعاده الفيلسوف الفرنسي بول ريكور لاحقاً) الهادف إلى التدمير الصرف، ذاك الذي «لا يتمتع بأي ارتباط جوهري بمعاداة السامية أو أي إيديولوجية أخرى»، وكانت قد رأت الشر في ظهور الأنظمة الشمولية (التوتاليتارية) ومصادرتها للحرية الإنسانية.
قدّمت معنى جديداً للحياة السياسية في أزمة المجتمع الحديث


في نصها عن «الثقافة والسياسة» (1958) استعراض واسع للمفهومين ولا سيّما عند اليونان، إذ أدرك الإنسان نفسه «كائناً سياسياً» إلى صفته الإنتاجية من خلال العمل، وبناءً عليه، ترى المفكرة حاجة السياسة إلى الثقافة، لأن هذه الأخيرة تضمن استمرار أقوال وأفعال البشر الفانين، وإلى تداخلهما ثمة خاصية مشتركة بينهما هي انتماؤهما كظاهرتين إلى «العالم العام». تقرّ بأنّ الفضاء السياسي لا يزدهر ويعيش في «معزل عن جمال الأشياء الثقافية، وتلك الأبهة الساطعة التي تتجلى فيها الديمومة السياسية وخلود العالم».
ترى أرندت في «محاضرة في الحرية والسياسة» (1960) إلى الارتباط بينهما بخلاف التعريفات الكثيرة للحرية، فلا يمكن اختبارها، في شكل إيجابي إلا في «عالم السياسة والفعل، ففي المجتمعات الاستبدادية تغيب السياسة عن الفضاء العام: الحرية والسياسة متزامنتان في تجسّدهما الواقعي وترتبطان ببعضهما كوجهي العملة الواحدة». بيد أن العصر الحديث فصل بينهما وركّز على مسألة الأمان من دون الحرية، وجهدت الأنظمة الشمولية في قمع الحريات. غير أن أرندت تقدّر أنه من العسير منع البشر من التصرّف بحرية، ذلك أن لا أحد يستطيع منع الناس «من التفكير والإنتاج وتجريدهم من الإرادة». لا تربط أرندت الحرية بحرية الإرادة أو الاختيار، كما يفعل أكثر الفلاسفة الغربيين التقليديين، بل تربطها بالفعل، فـ «الناس أحرار في سياق الفعل، وليس قبله أو بعده، وأن تكون حراً يعني أن تكون منخرطاً في الفعل». بالتالي، يتطلب ذلك ميداناً مناسباً للفعل. تشدّد على أنّ أشياء كثيرة تعتمد على الحرية الإنسانية، ولا سيّما «قدرة الإنسان على منع الكوارث» التي تحدث دائماً. وقد أكدت على الفعل في قولها أثناء مشاركتها في مؤتمر عن أعمالها نظّمته «جمعية تورنتو لدراسة الفكر الاجتماعي والسياسي» عام 1972: «إنني أؤمن أن الفعل مشروط بالعمل الجمعي، وأن التفكير شيء فردي، وهذان وضعان وجوديان مختلفان تماماً». وحين سئلت عن موقعها في الانتماءات المعاصرة، أجابت بشفافية، بأنها لم تكن اشتراكية أو شيوعية، رغم أن أبويها كانا اشتراكيين، والمجموعة الوحيدة التي انضوت فيها هي «الصهيونية» بين عامَي 1933 و1943، ومن ثم انفصلت عنها، وهي تعبر عن ندمها، وتبرر هذا الانتماء بأنه كان للدفاع عن نفسها بصفتها يهودية، وكان أجدر بها أن تدافع عن نفسها بصفتها كائناً إنسانياً.
انتهت أرندت في تجربتها الفكرية الغنية إلى الانسحاب من العالم والانغماس في التفكير الذاتي، حين تبدّت لها صعوبة المهمة من دون شيء تتكئ عليه، وحين وجدت هوّة عميقة بين الماضي والمستقبل، وهي تنقل عن المفكر الفرنسي ألكسيس دو توكفيل قوله: «عندما لا يعود الماضي يلقي بضوئه على المستقبل، فإن عقل الإنسان يهيم في المجهول». لذا، رأت أن على المرء التفكير «كأنّ أحداً لم يفكر من قبل، ومن ثم يبدأ في التعلّم من الآخرين». وكما سبق أن عبّرت أرندت في «الوضع البشري»: «ليس اغتراب الأنا، كما كان ماركس يعتقد، هو خاصية العصر الحديث، بل هو الاغتراب عن العالم».