«لم يكن التهكّم حصيلتي الوحيدة/ فقدته في الطريق/ لعبتُ بجذوع كبيرة/ وكانت هناك بيوت من كلمات/ كلمةٌ واحدة أكبر من بيت/ صرختُها ونمتُ على فمي/ صرختها ورجع إليّ هراء هائل/ سأكون أقلّ فظاعة في الصباح/ حين تعثر عليّ/ ضحكة مدوّية/ قلت سيكونون أشراراً/ لكنهم يصلون أنبياء/ قلت سنصطاد بسهولة في هذا المزاح الفائض/ ولن نجد بسهولة أباطيل كافية/ لكنّ أبواباً كبيرة ستقف لنا/ وتكون أمينة على أسرارنا».

تدعونا المجموعة الشعرية الجديدة للشاعر اللبناني عباس بيضون «كلمة أكبر من بيت» (دار نوفل/ هاشيت أنطوان) بمجرد التمعّن في عنوانها، إلى تفكير في إشكاليات شعرية ثلاث يتموضع النقاش فيها في صميم الشعر ذاته: في المقام الأول، تحيل المقارنة في العنوان إلى مقولة الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر في أحد كتبه: «أن تكون شاعراً، يعني أن تقيس»، الأمر ذاته كرّره الشاعر الفرنسي بول كلوديل في نشيده الخامس، حين عرّف الشعر بالقدرة على الالتقاط والقياس: «كشاعر، أراني وجدت المقياس. أقيس الكون بصورته التي أشكّلها». الشعر إذاً لغة مقايسة، تحدد سُكنى الشاعر بين الأرض والسماء، بين النسبي والمطلق، وتزن الكلمة في ما يمكن أن تحمله وما يتجاوز قدرتها على الحمل، كأنّ الشعر يحمل المعنى ونقيضه، بل بالأحرى معنى الاقتراب في كل مرة من معنى غائب، ومؤجّل إلى ما هو أبعد، وحرفٌ لنظر الشاعر نحو كائنات وأشياء العالم القريب، ناهيك عمّا في البعيد اللامرئي. قياس ما بين العالمَين، هذه هي بالضبط مهمة الشاعر التي تبدو مألوفة وخطيرة على حدٍّ سواء، لأنه يتوجب عليه قول الأشياء العادية والنافلة في الحياة، والتوغّل في الوقت ذاته نحو أماكن قصوى يتوه فيها المعنى الذي يتوجّب اختراعه في كل مرّة بمقاييس مختلفة، ويكون بذلك قد أسّس للتجربة الإنسانية في ما يسميه الفيلسوف «البعد» (dimension). كما أنها ليست المرة الأولى التي يضعنا فيها بيضون أمام هذه الإشكالية، إذ عنون أحد دواوينه سابقاً بجملة مستلهمة من الشاعر السويدي توماس ترانسترومر: «الموت يأخذ مقاساتنا». ترتبط الإشكالية الثانية ببيت الشاعر بحد ذاته، الذي يمكن الاستهداء بالجملة الشهيرة لصاحب «حجرات» و«خلاء هذا القدح» في تحديده: «أعيش محاطاً بكل هؤلاء الذين جعلوني وحيداً». إنها وحدة تجد كينونتها حصراً في الإحاطة واستدعاء الآخرين إلى زحمتها من العالم القريب والبعيد: «نفسي مزدحمة/ الهاربون إليها قطعوا أعماراً بكاملها/ قطعوا سنين لم يعيشوها/ ولا يزال الوقت ساخناً فيها/ تركوا حياة ما عادوا يتعاطونها إلّا بالكاد/ وطاقة لم تعد للاستهلاك/ وبالطبع كان الوقت يحدث في الخلف/ والمواليد يسقطون من الذكريات».
يبدو الشعر، مثل ذلك الفضاء الأول حيث يصعب الفصل بين الداخل والخارج، والظاهر والباطن، والسطح والعمق، ذلك الفضاء الذي سعى ريلكه للوصول إليه طيلة حياته وسمّاه «الفضاء الداخلي للعالم». كما لو أنّ بيضون في مجموعته الجديدة يتخّفف مما يمكن تسميته «التجربة الشعرية»، لأن التجربة هي أقرب إلى خلل في العيش، لمصلحة «كينونة شعرية» تثقب الحياة وتمزّقها إلى نتف صغيرة، وتعطي الشاعر القدرة على معاينتها مايكروسكوبياً وتقديمها لنا على شكل قصائد مختصرة حتى حين تتكثف لوصف الخسائر المتفرّقة والخيبات المرة: «لم يحدث شيء/لكن ما الذي ترك لي هذا الفراغ/ هل هي خسارة جاءت من المجهول/ أم لقاء بقدر عائد/ هل هو سماء أطبقت عليّ/ أم الأثير الذي امتلأ خوفاً/ وهذا الصباح الضرير الذي استقبلني/ هل هو ساعة، أم بابٌ فحسْب/ كنت وحدي حين استمرّت المحاكمة ليلاً كاملاً/ حين بقي لي هذا الاسم الثاني/ حيث من لا مكان استمرّ هذا الخلاء/ الذي في أوقات أخرى كان تعذيباً». الكلمة المعذّبة أو الاسم الثاني في صراعه مع «الصمت المضاعف» الذي يعنون به بيضون إحدى القصائد هو ما يضعنا في قلب الإشكالية الثالثة: أي صمت هو الذي تزخر به قصائد المجموعة؟
يعطي الكلمة الأخيرة للخسارة التي بدورها تبدو أكبر من الحب في «فالنتاين مسروق»

بحيث نقرأ مثلاً: «حدث ذلك حقّاً/ لكن لم يتضاعف الصمت/ ولم يتضاعف المكان» أو «رسائل على جلدي/ وكلمة كبيرة تغلّفني/ إنه الصمت الذي بيني وبين العالم/ ثمّة دقائق قد تتحول ندوباً/ مع ذلك قد يكون الأمر مجرّد كتابة/ ربما هناك من يستنبت هذه الذكرى/ من يترك اسمه يتقيّح/ قد يكون الجسد سكت هنا/ ثمّة رخام يتقشّر/ ثمّة جسد يتردّد كالصدى»: وكأنّ الشعر يبدأ من الصمت، من صمت بين الشاعر والعالم، من صدمة الشاعر في عدم سماع صوت من عالم الشهادة، أو من عالم الغيب إذا غاب «صوت الرب الإله ماشياً في الجنّة عند هبوب ريح النهار»، كما ورد في سفر التكوين. يمكن القول عندها بضرورة الكلمة الشعرية، لأن الوجود وقد قابلنا بالصمت، ينتظر من الشاعر أن يقابله بنقيضه المناسب، لتبدأ المحاورة التي «تتردد كالصدى»، ويمكن أن تصل إلى وصف للانفجار: «الانفجار كان رثّاً ومهلهلاً/ وترك أسمالاً في كل مكان/ لقد ظهر وجلده يتساقط/ ولا يزال يمتلئ خروقاً/ تداعت المنازل حوله كالأقفية»، ليلعب الشاعر في جدلية الصمت-الصوت لعبته الأثيرة في ترتيب الخسائر: «المبنى الوحيد الذي بقي/ انتصب بلا كتفين على البحر/ كِسَرُ الزجاج غطّت الساحات/ هل زالت عنها صور العائلة/ هل بقيت تحتها أرواح/ وهذا المذياع الذي استمرّ يتكلّم/ربما كان أيضاً روحاً/مدينة هرّت/خرج الزجاج من العيون/لكن أيضاً من صفحات الكتب/وبالتأكيد من الأغاني/التي تحطّمت على الأرض». أخيراً، وفي قصيدة خاطفة في منتصف الديوان بعنوان «ر.»، يبدو أن حرفاً وحيداً ورقيقاً يغدو هو الآخر أكبر من المكان وأسطورته: «شكرَت الأرض لأنها فكّرت بالأشجار/ والسماء لأنها وحيدة وزرقاء/ كانت خجولة أمام البحر/ لكنّها وهي تعدّ الأمواج/ خسرَت سنين/ أضاعت عامين من عمرها/ ومن بصَرها الراجع فوق الماء/ لم تقل أنا للبحر ولا للشارع/ وكانت تجمع شعرَها/ حين لا تبقى نقود/ ولا أسطورة للمكان». إلا أن بيضون يعطي الكلمة الأخيرة للخسارة التي بدورها تبدو أكبر من الحب في «فالنتاين مسروق» : «تعودين من وراء الأيام/ إلى حيث لم تكوني/ إلى حيث لم أكن أبداً/ إنها شرفة مستأجرة/ شجرة مبيعة/ ساعة في الخلف/ فالنتاين مسروق من ثلاثين عاماً/ ولا يزال يحبو على الثلج/ لست من تركت قفّازيَ لاستقبالك/ ولست من تركت مظلّتك لي/ إنه عشاء فوّتناه من ذلك الحين/ ويبقى مع ذلك أخيراً وساطعاً/ أفكّر أن العيد لا يزال هناك/ مطروحاً على باب الله».