قال زهير بن أبي سلمى: «ومن يعشْ ثمانين حولاً لا أَبا لَكَ يسأم»، فكيف ستكون حالنا لو عشنا مئة عام «بِلا عزلة» أي قرن كامل من التجارب التي غيّرت وجه العالم؟ هذا هو موضوع رواية «فيوليتا» (2022 ـــ انتقلت أخيراً إلى العربية عن «دار الآداب») للكاتبة التشيلية إيزابيل ألليندي التي تقصّ هنا حكاية امرأة منذ لحظة ولادتها في بداية جائحة الإنفلونزا الإسبانية عام 1920 حتى نهاية حياتها التي تتوافق مع ظهور جائحة كورونا عام 2020. تُروى القصة على لسان «فيوليتا دِل بايّيه» على شكل رسالة تكتبها إلى حفيدها «كاميلو» لتخبره بها تفاصيل حياتها المديدة والمصاعب الماديّة والعاطفية التي واجهتها. فيوليتا فتاة مميّزة وُلدت في عائلة بورجوازية ثرية، وعاشت طفولتها في بيت الأجداد المُسمّى «بيت الكاميليا». لكنّ عالمها ينهار حين يخسر والدها ثروته بسبب مضارباته المالية غير المحسوبة خلال أزمة الكساد الكبير عام 1929 التي ضربت العالم كلّه، فيقرر الانتحار تاركاً لعائلته الخزي والديون الباهظة. تضطر عائلة فيوليتا المؤلفة من أخيها ووالدتها وخالاتِها، بالإضافة إلى المربّية «مس تيلور» للانتقال إلى الجنوب والإقامة في مستعمرة بين السّكان الأصليين للبلد الذي لا تذكر اسمه الكاتبة إطلاقاً، لكن من الواضح أنها تقصد التشيلي لأنّ الأحداث السياسية المذكورة تعكس المسار التاريخي لبلدها الأمّ.


تكبر فيوليتا مُهدهدة بالتعاويذ السحرية والخرافات التي تنتشر بين سكان تلك المناطق، وتتزوج طبيباً بيطرياً ألمانياً بالرغم من أنها لا تحبه ثُمّ تهجره في ما بعد حين تعتقد (مخطئة) أنها وجدت الحبّ الحقيقي. تتطور شخصية فيوليتا لتصبح امرأة قوية مكافحة تستطيع الوقوف على قدميها بمساعدة شقيقها خوسيه أنطونيو. ثمّ تتحول إلى سيدة ثريّة ومستقلة مادياً بفضل موهبتها في التجارة والأعمال، لكنها تبقى ضحيّة للأحكام المُسبقة والعقلية الأبوية المتجذّرة في بلدها. خلال حياتها الطويلة، تجد فيوليتا نفسها تدريجاً منخرطة في النضال من أجل حقوق المرأة، وحقوق الإنسان، كما تشهد صعود وسقوط الرئيس التشيلي سلفادور ألليندي (ابن عم والد إيزابيل ألليندي)، والمجلس العسكري اللاحق وما تلاه من أحداث دموية مزّقت البلاد.
العنصر الأساسي في الرواية هو علاقة الحبّ والشغف التي جمعتها بطيار وسيم يدعى خوليان وإنجابها طفلين منه بعد هجرها لزوجها الألماني. يتبين في ما بعد أنّ خوليان هو مجرد وغد لا يستحق التضحية، فتتحول قصة الغرام الجامحة إلى علاقة سامّة تتأرجح بين مشاعر الحب والكراهية، وخصوصاً بعد تورط خوليان في علاقات مُريبة مع المافيا والمخابرات الأميركية. لاحقاً، تجد البطلة التعويض عن سنوات الفشل العاطفي في زواجها بدبلوماسي نروجي تقضي معه فترة الشيخوخة السعيدة. تستكشف الرواية أيضاً علاقة فيوليتا بابنتها المتمردة التي تحولت إلى الإدمان على المخدرات وحياة الليل بتشجيع من والدها لتموت في ما بعد تاركةً ابنها كاميلو لتُربيه أمُّها. كذلك، تخبرنا عن علاقتها بابنها الذي يُظهر ميولاً ماركسية ويندمج في العمل السياسي المناوئ للنظام وللإمبريالية الأميركية، ما يعرّضه لمخاطر حقيقية ويُسبّب قلقاً دائماً لوالدته.
حرصت ألليندي أيضاً على تغطية الأحداث الكبرى التي طبعت تاريخ أميركا الجنوبية في القرن العشرين، بما في ذلك الكفاح من أجل حق المرأة في التصويت، الثورة الكوبية، والديكتاتورية التشيلية. وقد يكون الجزء التاريخي –السياسي مثيراً للاهتمام لأنّه يُعرفنا إلى نظام الحكم وإلى انقلاب عام 1973 الذي نظّمته وكالة المخابرات المركزية الأميركية لإطاحة حكومة سلفادور ألليندي اليسارية، ما أدّى إلى بروز الديكتاتورية الوحشية للجنرال بينوشيه. وقد سبق للروائية التطرق إلى هذه الموضوعات من قبل، لكن من زاوية وصوت مختلفين. وقد عبَّرت في هذه الرواية عن الرعب والإرهاب الفكري والسياسي الذي ميّز تلك الحقبة الزمنية، وحكت لنا عن تعذيب وإخفاء وقتل الآلاف من المواطنين الأبرياء.
قصّة تدمج تاريخ امرأة وتاريخ وطن معذّب


في المقابل، تتبع الرواية مسار شخصية واحدة عبر سنوات مديدة، ما يمنع أي تدفق إيقاعي كبير للقصة، فنشعر بأنّها مجرد سرد رتيب للأحداث التاريخية والشخصية. أضف إلى ذلك، كُتبت الرواية بطريقة توحي بأنّ فيوليتا تعيد حساباتها وتجري تقييماً للماضي لتخبره حفيدَها وابنها بالتبني «كاميلو». هذه الحلقة من «التغذية الراجعة» التي أنشأتها الشخصية الرئيسية أضفت على القصة مزاجاً تعليمياً وعظياً زاد من حِدّته اقتباس الأمثال البليغة وإسداء النصائح بدلاً من اللجوء إلى الوصف الخصب والمشاهد القوية. لا شك في أنّ هذا الأسلوب، المليء بـ«الحكي» مُرهق للقارئ الذي يتحمّل حرفياً مئة عام من أفكار ونظريات فيوليتا. كما أنّ مزج الأحداث التاريخية والحكايات الشخصية بشكل فظ ومفتعل أحياناً، تسبّب في افتقار السرد إلى التماسك، وخصوصاً أنّ الروائية حشدت الكثير من الوقائع التاريخية المعروفة في رواية ضئيلة نسبياً.
يمكن القول إنّ ما تفتقده هذه الرواية هو عنصر الدراما والمشهد الكبير الفوري والمثير للعواطف الذي يمنح القارئ إحساساً بالمشاركة الحادّة في الحدث، فكلّ شيء يُروى بالعودة إلى الماضي (سرد لاحق للأحداث)، حتى المشاهد الأكثر أهمية ترتبط بالذاكرة البعيدة، ما أفقد العمل عُنصرَي المتعة والتشويق. يبدو أنّ ألليندي تجاهلت هنا أنّ الكتابة الإبداعية تعتمد على «الإظهار» وليس فقط على القول والحكي، وربّما هذا هو السبب الذي جعل من فيوليتا نفسها شخصية باهتة وغير مثيرة للاهتمام حقاً. كما أنّ علاقتها بخوليان، على وجه الخصوص، لم يتم تقديمها بشكل مقنع. ومن الواضح أنّ الكاتبة أثناء انتقالها من جائحة إلى أخرى على مدى قرن من الزمن، ضحّت بالمصداقية الروائية، إذ لا نستطيع كقرّاء أن نثق تماماً بقاصّ يبلغ مئة عام من العمر.
«فيوليتا» باختصار قصّة تدمج تاريخ امرأة وتاريخ وطن معذب، ويُمكن اعتبارها إلى حدّ ما وصيّة لإيزابيل ألليندي التي تبلغ اليوم ثمانين عاماً. نجد في هذه الرواية بعض ما نحب في أدب أميركا الجنوبية من واقعية سحرية، وروح الأرض/ الأم وجمال الطبيعة وأيضاً حس الدّعابة الذي يجعل البطلة تواجه آلام الشيخوخة بمرح في نهاية الكتاب. مع ذلك، لا ترتقي رواية «فيوليتا» إلى مستوى الأعمال السّابقة لسيّدة الأدب اللاتيني التي منحتها شهرتها العالمية.