بعد ستين عاماً على رحيله، ما زال الشاعر محمود بيرم التونسي (1893_1961) في تونس، أرض أجداده التي غادرها جدّه ليستقر في مصر. أحدث الكتب التي صدرت في تونس عن أشهر شعراء العامية المصريين، كتاب عن «أحرار في بلادنا» («المركز الوطني للاتّصال الثقافي» ـ وزارة الثقافة) بعنوان فرعي هو «من التراث البيرمي في تونس في ثلاثينيات القرن العشرين». العمل كناية عن مجموعة قصصية حقّقها وقدّمها الحسناوي الزارعي، تضيء جانباً مجهولاً من سيرة بيرم التونسي الذي اشتهر خصوصاً بأزجاله وارتباطه بسيد درويش وأم كلثوم والقصبجي وغيرهم من الفنانين، وظلّت المرحلة التونسية من حياته مجهولةً.

عاش محمود بيرم التونسي ثمانية عشر عاماً في المنفى بين تونس وفرنسا والشام. نُفي إلى تونس بسبب مواقفه من الاستعمار البريطاني في عام 1919، لكنه لم يبق إلا ثمانية أشهر ليغادرها إلى فرنسا حيث عاش منفياً عشر سنوات وعاد إلى تونس بين عام 1932 وعام 1938. فترة انتمى فيها إلى مجموعة «تحت السور» التي كانت غزيرة الإنتاج الصحافي والأدبي، ترأّس فيها تحرير جريدتي «السرور» و«الزمان» وأسّس جريدة «الشباب» التي منعتها الإدارة الفرنسية.
يرى حسناوي الزارعي، الباحث في تراث بيرم التونسي، أن وصول بيرم إلى تونس تزامن مع حركة تجديد أدبي وصحافي شهدتها تونس في ثلاثينيات القرن الماضي: «لقد تزامنت فترة إقامة بيرم في تونس في بداية الثلاثينيات مع ظهور أول حركة قصصية تونسية واضحة المعالم، تدعّمت أيّما تدعيم بقدومه». يحصي الزارعي إنتاج بيرم القصصي في تونس بـ 32 قصة توزّع نشرها بين ثلاث صحف هي «الزمان» و«السردوك» و«الشباب». كانت أول قصّة منشورة له بعنوان «رسالة الغفران» وهي محاكاة لـ«رسالة الغفران» التي كتبها المعري، وقد نُشرت في جريدة «الزمان» سنة 1933.
يقدّم الباحث بعض الملاحظات حول أسلوب بيرم القصصي، فيرى أن قصصه تعكس «البيئات الثلاث التي عايشها في حلّه وترحاله (مصر وتونس وفرنسا) مع تميّز المرحلة التونسية كمّاً وكيفاً والتركيز باستمرار على مكامن العيوب فيها أخلاقياً واجتماعياً». كذلك، تميّزت قصص بيرم بنضج فني وفكري «وكان يرى أنّ انهيار القيم يعود إلى الطبقات الاجتماعية الثرية والمتنفّذة».
يشير الكتاب أيضاً إلى الدور الكبير الذي اضطلع به في التأسيس للصحافة الهزلية وفن الكاريكاتور الذي كان بيرم يرسمه، سواء كرسوم خطية أو كبورتريهات لبعض الشخصيات في المجتمع وهي الموهبة التي لم يجارِه فيها أحد.