لم تكن المسألة شعريَّةً فقط، أو لنقل كانت شأناً عاماً احتلّ الإبداع صميمه. وفي صميم هذا الإبداع التَّركيز على الشعر والفنون التشكيليَّة: في ستينيَّاتُ وبداية سبعينيَّاتِ القرن الماضي، خرجت الحركةُ الوطنيَّة المغربيَّة منهَكة من كفاحٍ سياسيٍّ وصراعٍ مسلَّح مريرين في وجه تحالف طغيان الحسن الثاني ومحازبيه من أذناب الاستعمار وبقايا الاحتلال الفرنسي من بين ممثِّليه في مفاصل الدَّولة. صراع مرير من أجل استكمال تحرير البلاد وإرساء نظام ديموقراطيّ. (المغرب يكادُ يشكِّلُ حالة خاصَّة في التاريخ المعاصر للبلدان التي تحررَّت من الاستعمار المباشر، بكون حركته الوطنيَّة لم تتسلَّم مقاليدَ الحُكْم.) بعد اتِّضاح أنَّ الآفاق مسدودة في المغرب أمام أيِّ نضال ديموقراطي علني، سواء داخل أو خارج مؤسسات هندسَها الحسن الثاني مع مستشارين سياسيين وعسكريين فرنسيين، ارْتَأَتْ ثلَّةٌ من المثقَّفين الشَّباب، تتلمذت بين المؤسسات التربوية المغربيَّة والمعاهد الفرنسيَّة، أن تنشقَّ عن الفصيلين اليساريَّيْن الأساسيَّين في الحركة الوطنيَّة المغربية، فأسَّسَ المنشقُّون عن «حزب التَّقدُّم والاشتراكية» (تغيير لاسم الحزب الشيوعي المغربي الذي رفضت السلطات المغربية الاعتراف به تحت هذه اليافطة) منظَّمةَ «إلى الأمام». وفي الفترةِ نفسها، أسَّسَ المنشقُّون عن «حزب الاتِّحاد الوطني للقوَّات الشعبيَّةِ» منظَّمةَ «23 مارس» (تخليداً لانتفاضة 23 مارس 1965 الشعبيَّة، التي أخمدها نظام الحسن الثاني بقوة النار والحديد في مدينة الدار البيضاء)؛ وهما منظَّمتان سرِّيَّتان متشبِّعتان بالماركسيَّة ــ اللينينيَّة.في موازاة العمل السياسي السِّري تحت الأرض، راهنت قيادة منظَّمة «إلى الأمام» على العمل الثقافي. هكذا، انطلقت مجلَّة «أنفاس»، ليصدر العدد الأول من النُّسخة الفرنسية، في الرباط بداية عام 1966 بهيئة تحرير رأسها الشاعر عبد اللطيف اللعبي، بمساعدة الشاعر مصطفى النيسابوري، مع غلاف من تصميم التشكيلي الراحل محمد المليحي (صدرت النسخة العربية في عام 1971، وتمَّ منع كامل المجلة في عام 1973، مع إيقاف قيادات المنظَّمتين والمنتسبين إليهما، وتقديمهم إلى المحاكمة بتهمة محاولة قلب النِّظام.)
إضافةً إلى نشر نصوص إبداعيَّة ورسومات فنِّيَّة من كل العالم الثالث وأنصار القضيَّة الفلسطينيَّة في الغرب، دافعت المجلَّة في سجالات وندوات ومقالات وحقِّ الرَّد عن قيم الثَّقافة الوطنيَّة (في الوقت نفسه مع مجلة «الآداب» البيروتيَّة)، ونقد الأدب والفنون التشكيليَّة الفولكلوريَّين اللذَيْن يحقِّران المغاربة وينالان رضا قدماء المعمِّرين الفرنسيين. كانت أهمُّ خطوة عمليَّة قامت بها المجلة هي تأسيس دار نشر ورواق Atlantes، رافقَها تأسيس محمد المليحي لدار نشر ورواق Shoof. كانت الغاية الأساسيَّة لهذه الخطوة المزدوجة محاولة الاستقلال بالكتاب المغربي والإبداعات التشكيليَّة المغربية عن منظومة الإنتاج الثقافي الكولونيالي، ما يشكّل الخطوة الأهم لانتشار الثقافة الوطنيَّة المغربية، سواء باللسان الفرنسي أو العربي.
من دون هذا السياق السياسي والثقافي وتبيان جدل الحدث السياسي والقصيدة، لا يمكن فهم معالم التجديد التي ضخَّها مصطفى النيسابوري في دماء الشعر المغربي المكتوب بالفرنسيَّة، هو الذي يعود إلى الواجهة اليوم من خلال «نجمة نائية ونصوص شعرية أخرى» عنوان مختارات له صدرت أخيراً ضمن سلسلة «تجارب شعرية» عن «دار توبقال»، بترجمة الشاعر والكاتب محمّد بنّيس. إضافةً إلى مهام النيسابوري التحريرية في «أنفاس»، نشرت المجلة نصوصه الأولى. رغم أنَّ النيسابوري (الدار البيضاء، 1943) كان في معمعة النشاط السياسي، إلا أنّه لم يكن منتسباً إلى منظَّمة «إلى الأمام». يمكن وصفه بالتعبير التقليدي لـ «رفيق الطريق»، أي الذي يتقاسم مع التنظيم الرأي السياسي نفسه، من دون العمل الحركي ضمن خلاياه. سمحت هذه المسافة للنيسابوري بتخفيف قصيدته من نبرة الاحتجاج العالي والمباشر، خلَّصَتها من أيديولوجيا استتباع الشعر بالسياسة، على العكس من صديقه وزميله عبد اللطيف اللعبي، الذي كانت قصيدته غارقة في المقاربة المباشرة للواقع من دون ترميز ولا كناية، وبالقليل من الأدوات الجمالية. من كثرة مرافقته للفنَّانين التشكيليين وتأثُّره بهم، تبدو قصيدةُ النيسابوري مشهداً بصرياً قريباً في معماره من لوحة فنِّيَّة، مع فضاءات طبيعيَّة ممتدَّة منحت القارئ مكاناً أرحب ممَّا وفره النِّظام السياسي آنذاك لأحرار المغرب من زنازين ومعتقلات وكبت حريَّات. قصيدة النيسابوري متنفَّسُ مَن لا متنفَّسَ له. لذلك انتظمت في إيقاعاتها على شكل أبيات طويلة أو قصائد مديدة أو نثر فنيٍّ موقَّع؛ في تخلُّص شبه كامل من علامات التنقيط. فالإيقاعُ لديه هو النَّفَسُ النَّاظِمُ لإنشاد القصيدة، وهو يجنِّسُها تحت اسم «أناشيد» وصلاً لها بالماضي القديم للشعر مع الإغريق، رغم مَلْمَحِها الحداثي، بل الطليعي في سياقه.
إعلاءً من شأن القيمة التشكيليَّة لشعره، أصدر النيسابوري مطوَّلَتَهُ «فَجْرٌ» (1994)، في شكل متواليَّة من 13 شَذرة تتخلَّلها 13 لوحة مطبوعة على الحرير من إنجاز التشكيلي المغربي فريد بلكاهية. كما أصدر ديوانه «مقاربة الصَّحراوي» (1997)، في طبعة فنِّيَّة محدودة، مرفَقة برسومات ولوحات مطبوعة على الحرير أيضاً للتشكيلي المغربي الحسين الميلودي. معجمياً، تَتَفَرَّدُ لغة النيسابوري بتشظية موضوعها إلى مشاهد ولوحات صغيرة، وصور متباعدة، تبدو لأوَّل وهلة مفكَّكة. يبدو للقارئ النبيه أنَّها نتاج مِخْيَالٍ خصب وتوليف ذكيٍّ عِماده الإنشادُ الموقَّعُ وابتكار واقع شعريٍّ يحاول استبدال الواقع العقيم بيوتوبياه التي تنزعُ نحو تأسيس عمران جديد، يستحقُّ تعميره إنسان جديد ذو قيم جديدة تنبثق من رَحِمِ الصراع الاجتماعي والجماليِّ بالضرورة. وهنا ملحوظة لها علاقة بما سبق: نشر الطاهر بنجلون كتاباته الأولى في «أنفاس» وقدَّم له المناضل السياسي أبراهام السرفاتي ديوانه الأوَّل المنشور في دار Atlantes الرَّديفة للمجلة. في نهاية سبعينيات القرن الماضي، سيهاجر بنجلون إلى فرنسا وينقلب على كلِّ هذا الماضي بـ 360°، ليشرع، تحت طلب ناشره الباريسي، بكتابة روايات فلكلورية ونيو-استشراقية وأشعار ذات لغة تدور في الفراغ. على إثر ذلك، ستفتح له استديوات القنوات وصفحات المجلات والجرائد في فرنسا بينما سيتمَّ التضييق على روائي وناقد فني أهمّ مثل إدمون عمران المالح. وبقي مصطفى النيسابوري على هامش أي اعتراف فرنسي بإضافاته الشعرية إلى لسان العالم الفرنكوفوني رغم أنَّ كتاب المختارات الشعرية الحالي نُشِرَ بدعم من «مصلحة خدمة الكتاب» في السفارة الفرنسية في الرباط. هنا مختارات من كتاب «نجمة نائية ونصوص شعرية أخرى».




1- فجْر
الفجرُ
لا شيْءَ سوى فجْرٍ
كيْ تظهرَ هذه الكُثبانُ
المُتناثرةُ كأنّ شبكةً مُبْهَمةً للعيْنِ
تُقدّمُها في غفْلة عنّي
فضاءٌ لتحْليق آخر رُموزٍ
تتجلَّى في حُمَّياتِ شُموسٍ مُنْكمشَةْ

ذلكَ ما انبثقَ من بين أحْلام اليقظةِ التي هنا تهزُّ مشَاعري
ورقُ الشجَرِ وكتابتُهُ
بزَخْرفةٍ منْهوكةٍ
احْتجازٌ للجواثيمِ
علَى حيطانِ الهذَيانِ
جهاتٌ ميّتاتٌ نَواحٍ أخْرى

لا شيْءَ سوى فجْرٍ
كأنهُ امتدادٌ لنفْسي في صُدْفةِ السّحابِ
عند ذُروةِ الليْل المكَذَّبِ
بما فيه الليلُ الذي أتخلّصُ منهُ
وحتى أقيسَ أثَرهُ اعتَقلتْ
جَحافلِي الشاحبةُ أمْكنةً بها
ينذهلُ الجسدُ خلال النهارْ
هُناكَ في الأعْلى عنْد عُبور أفْراسٍ مُجنَّحةٍ
لا بدَّ منْ أخْذِ موْقعٍ يبْني محْوراً مع انْسياقهَا
وهكذا نُنْكرُ الأرضَ نُنْكرُ ازْرقاقَها

التخومُ التي تَراها منْ هُنا
تخومُ عهْدٍ أجْدبَ
خلْفها بلدانٌ كأنها بصَماتٌ تموتْ

لفرْطِ ما بلَغتِ الاحْتضارَ
وهْيَ تنظرُ إليْنا لحدّ أنّ صحْراءَ
تعْبُرنا منْ جانبٍ إلى آخَرْ.
كانت البدايةُ بالانْغمارِ
ألفُ شمْسٍ يمكن أنْ تذوبَ
وتهيّئَ لإدْراكِ الطّفاواتِ
وأنا مُضْطرباً ثانيةً أصْعدُ
في نفْسي مُتفكِّراً في ماءِ الموْتَى
لأجْل عُبورِ منْظرٍ طبيعيٍّ مُغْلَقٍ



وأنْ تكون مَشاهدي للآخرةِ
لا واقعاً وأن تكونَ أيضاً تقلّباً
لفجْرٍ مُنتزَعٍ منَ العِرافةْ.
تفْريعٌ، حقاً. بمُجرد ما تُدْمجُ
جليديةُ العيْنِ الكلَّ في ثُنائيةِ النّهارِ
كما لوْ كان عليْه أنْ يولدَ من جديدٍ
فالرمالُ الصِّوانيةُ جاهزةٌ لكتْم هذا السرِّ
حتّى تَجيءَ النّساءُ
وتُبدّلْنَه بنظْرتهنَّ
منْ فوق الرّوابي التي بأيْديهنَّ
يُغيّرْنَ مظْهرَها

ما يُنطَقُ به يتفرّقُ منْ صدْركَ باتجاهِ قطَعِ جدْرانٍ كُتلَتُها تكادُ تلْتبسُ في لُعْبةِ خطوطِ
التلاقي المُضيئةِ. أحجارٌ رماديةٌ.
جُزُرٌ مُتراكمةٌ. نهارُ البارحةِ مُوَزَّعٌ منْ جديدٍ. واقتحامُ أبي هوْلٍ بجَناح مُرْتبكٍ
واجْتياحُهُ بيْنما هو في صراعٍ مع بُراقٍ
هذا بعُيون واسعَةٍ والآخرُ متوّجٌ ببَهائهِ
رأيْتُهما من بعيدٍ يُغلّفهما صمْتُ الصّنوْبراتْ

2- مُقاربةُ الخلاءْ
هيَ ذي سماءٌ أخْرى
أوْلويةٌ لمكانٍ آخرَ
على سيْرِ الكَلمةِ
كامْتصَاصٍ لزُرقة السّماءِ
الذي ساعدَ الجسدَ
السابقَ على الرُّسوِّ

كلحْظةٍ ذاتِ قطيعةٍ عُظْمى
تبْتكرُ لُغةً وتجْعلُها خارجَ الإدْراكِ
قبالةَ نقْطةِ إظهارٍ في السّهْلِ
لجَنائزَ غامضةٍ
قبالةَ شبَكةٍ من الزنْقاتِ
مُجرّبةٍ في تجْويفٍ للواقعِ
قبالةَ أسْبقيةِ المُمْكنِ والمُحْتمَلِ
على التُّخوم ِالمُتخيَّلةِ
انْعكسَتْ يوْماً في رُوحي
تمْتصُّ نسيجَها
قبل آخر تفكُّكٍ في شكْل سحابْ
3- سماءٌ أخْرى
لها جميعُ الأزْمنةِ
التي تحْتاجُ إلى التبلُّرِ في الصّدْرِ
مُحمّلةٌ بآخرِ دفْقٍ
لهيروغْليفيةٍ مُحْتمَلةٍ
تُنقَلُ لاحقاً
إلى لُويْناتِ الملْحِ الحجَريّ

معَ ما تبقّى
يعْبُرهُ على الدّوامِ
تَراجعُ هذه المادّةِ المُسرْنِمةِ
لأنها تُعيّنُ موقعَ البلَدِ الضائعِ
عند مصبِّ الأحْلامِ
معَ مكانِ ونُموّ السِّدْرةِ
ودوامِها على لوْنٍ أسْمرَ ذهبيٍّ
كأبدِيّةٍ
في إشْراقةٍ مُتشذّرةْ
معَ هذَا الغيابِ
الواصلِ حتّى عتبةِ المُبالغةِ
التي تجْعلُ الظلَّ يمتدّ على أرْضٍ
تحدُّها في غفْلة عنها
أحجارٌ مطْليةٌ بالْجيرِ ونباتُ القيْقلةِ
حيثُ يكادُ ينْحَصرُ
صحْوٌ عابرٌ مُفْترَضٌ
شبْهُ مكانٍ فيه الذاتُ تُصوّرُ نفْسَها
بدُونِ مأوى بدُون ذاكرةٍ
بدُونِ اسْتذكارِ عوْدةٍ مُمكنةٍ ولوْ
في زمَنٍ آخرَ
ليْلُهُ مرفوعٌ في شكل نعْشٍ
على أكْتافٍ عاريةٍ
حتّى الوُصولِ في النهايةِ
إلى تلاوةٍ تتوالَى
فيما نجومٌ وشموسٌ تتجمّدُ
في هذه الكتابةِ ذاتِها
حيثُ هذه الكوْنيةُ صمَتتْ

محمد المليحي. من دون عنوان (طلاء السلولوز على خشب ـــ 1970 ـ 1971)


مُجرّدُ واقعٍ وسيطٍ
لأجْل مُجاوَرةٍ لما يُحيطُ بنا
وجينْيالوجيّاتِه الميّتةِ
ومن أجْل البقاءِ بعيداً
آخرةَ ليلٍ مُبعْثرٍ
في أمكنةِ التَّيهانِ التي تُنْكر نفْسَها
تلك الأبجديةُ التي كنّا نشْرَبُها في سَالفِ الأزمنةِ
أصبحَتْ مكاناً يُعادُ حكْيُهُ
بالانْسجام مع مَقام الحجَارةِ
ببوْح المُسافر كما بالسّفَرِ
كأنه اتفاقٌ رضائيٌّ مع صحْراءِ المَرابطِ
عنْ طريق صُورةٍ شَبيهةٍ
بمدينه ليكْسوسْ
عندما دوَرانُ المَجالِ
يُدْمجُها في كلمة «موْت»
صورةٌ بمثابة كائنٍ ترْكيبيٍّ في الحاضرْ
لمْ يحدثْ أبداً أنْ كان تأثيرٌ للمُبادلةِ على كلمةِ «موْت»
بمثْل تعْويضٍ كهذا للْبقايا
بتكثيفٍ كهذا عن بُعْدٍ حتى
مادّةٍ صعْبةِ المَنالِ
لمْ يقدرْ أنْ يُطالبَ بالْتحامِ
الجُروفِ مُبرْهِناً مرةً تلْو مرّةٍ على أنّ حجَر البازلْتِ
أوْ سماءَ القسْوةِ التي تعْلو
الرَّوابي المُسوّاةَ منذ عصْر بعيدٍ
أكلتْ أجْفاني افْترسَتْ قيْلولتي
فبدءاً من الداخل على الفوْر تكيّف الموقعُ
كتراكُمٍ نُعاسيٍّ للشْمسِ
إلى أنْ وُزِّعَ ظاهرياً على الأمواجِ وحْدها

أيُّ زبدٍ لا يقْبلُ عنْدئذ أنْ يكونَ فرضيةَ مأْساتهِ
أوْ بالنسبة إلي نُكراناً عريضاً ولا يوصَفُ
ملْحٌ ورمْلٌ
فوْق البداياتِ المُلْتبسةِ للهيْكلِ العظْميِّ
أيُّ هُويةٍ إن هيَ لمْ تكنْ
مُتخيَّلةً
حَجّاً تذكُّراً مُبْهَماً نفْسَ السّاحلِ الكثيفِ الحُضورِ
في المنْظورِ ذاتِه الهاربِ
أيُّ اندماجٍ من جديد للذاتِ
هنا بالضبطِ لا تُخلّصُه شجرةٌ ضاجّةٌ بزيزَانهَا

أيُّ يقظةٍ عند زيْتونةٍ برِّيّةٍ
إنِ الذاكرةُ كانتْ دائماً على أُهْبة الإقلاعِ
بطريقةٍ لا نقْدرُ معَها
أنْ نعْتبرَ أنفُسَنا سوى ما تبقّى منْ منْطُوقٍ
وجُمجمتَنا مُمتدةً بأُرْجُوحةٍ سكْرانةٍ بطيورها
وبالكلامِ الغَامضِ للحْظةٍ يستحيلُ عيْشُها
إلّا كتداخُلٍ في واضحِ النّهارِ
الذي يضَعُ في مكانٍ آخرَ النخلةَ المُضافةَ
وبعيداً أكثر نَشْأَةَ الواقعْ.
قياسُ اليقظةِ
هو حلولُ الصّباحِ
الذي يُصمِّمُ عند العُبورِ
انقطاعَ طمْثِ الأقْمارِ
يبتعدُ
وفي الوقْت ذاته تبتعدُ القلْعةُ
والمشهدُ نفْسهُ حيث يُمكنُ أنْ نُعلنَ
أنّنا منَ اللّامكانِ نَجيءُ
ولوْ نحنُ كنا نتقدّم في المُمْكنِ
تخْميناً بين شمْسٍ كاذبةٍ ومَظْهرٍ مَا
حتى شَقائقِ النُّعْمانِ الصّارخةِ لمصَابيحِي
هي صورةٌ تتوسّطُ المركزَ منْ جديدٍ
في المَرْقومِ المُلْقى مرةً أخْرى في محْنةِ هوامشهِ
ثم منْ بعْد ذلكَ تُمْحَى
تدْريجياً مُؤكّدةً بمَحابرَ لاَ عدّ لها
وهي كلمةٌ نهائيةٌ تُشْرَبُ
لتُستأنَفَ في بُعْدِ
التّعْبيرِ الذي يأخذُ مكانَ إناءٍ
سبَقَ له من قبلُ أنْ كانَ
جُزءاً من إقليمٍ مدّدناهُ
على حسَاب الذّاكرَةْ
من هنا يتأسّسُ
حَنَقُ الخَلاءِ
على طريقةِ توسُّعِ اليابسِ
وهو يغْمُرُ الوجْهَ
يغْمرُ الشعَرَ بدْءاً من الانْغراسِ
ويغْمرُ ارتفاعَ الأعْضاءِ
كما لوْ أنّنا كنّا أمامَ انْحرافٍ عن الواقعيِّ
إذْ يتمُّ ذبْحُ العقْلِ
من أجل توْطيدِ نَبضاتِ تيَهانٍ
أمامَ فضاءٍ يغيِّرُهُ شكُّهُ منْ جميعِ الجهاتِ
حتى يُصبحَ اسْمي منْ أسماء التّرحُّلِ
منْ عدَم المُلاءَمةِ المُنطلقةِ منَ الولادَاتِ
القاسيةِ في الحُمْرةِ على الطُّرقِ
منْ بحْر غيْر قابل للتصرّف وهو مُسْتترٌ
تحت توزُّع التلّالْ
منْ أجْل ألا تبْقى سوَى قطَعٍ من السّماءِ
في شكْل هذَيانٍ متشذّرٍ فوق الطاوُلةِ
ثمة تراجُعٌ واضحٌ
لخريطةٍ مُتقادمةٍ في المَسار الفقْهيِّ
أكْثرَ فأكْثرَ يتقلّصَ النّسيجُ
الزائلُ لبلْدانٍ حتى لا نُخاطرَ باللانهائيِّ في الخارجِ
ولا بقلْبٍ في حالةِ سَديمٍ فاغرٍ
نُسْكيةٌ إلى حدّ نسْيان الليْلِ وفرضيتِهِ
في النّسيج النباتيِّ الذي يُنمّي تقدُّمَ
ألْفِ فصْلٍ لا رجاءَ فيهْ

3- بدُون اسْمٍ
في اليوم الذي كنتُ عثرتُ
على وجْهةٍ أخْرى للهُروبِ
لم أعدْ بعد ذاكَ مَعْنياً
بهذه البطاقات التي وضَعتْها بخفّةٍ يدٌ
حاذقةٌ في الْتباس التوقُّفاتِ
في تشوُّشِ المَساراتِ
هنا وهناكَ ألْصقتْها فوْق أمْتعة سفَري
كانت الساعةُ تشير إلى مُرورِ رائحةِ الهَواءِ
على نباتاتِ الزنْبق وإلى المحَنِ
الباديةِ لكنّني لم أتأسْفْ على
شيْءٍ كنتُ أتمشَّى جيئةً وذهاباً في ردْهةِ محطّةٍ
وكانتْ صورةُ الظلِّ ملقاةً على الرّصيفِ
معَ أشْجاءِ تَدرُّج الضوْءِ فيهِ
مرْصودٍ لانعكاساتٍ أخرى عَابرة
كنتُ آنذاكَ غريباً لا اسْمَ لي
منْ بلد يكادُ يكونُ مُحتَملَ الوُجودِ
دونما صلَةٍ مع مَنْ كان صوْتٌ
يدعوهُ إلى مكتبِ اسْتقبالٍ في اللاّمكان
لا تباعدَ ولا تقاربَ فيه ومَنْ
وصلَ إلى حدِّ ألاّ يريد أبداً
مُوافقةً على النّهار الذي يطلعْ
حينَها وجدتُ نفْسي هناكَ أتتبّعُ
سُماقَ الزّمن يَلتقطُ ويُجمِّدُ ببُطءٍ
أزْرقَ السّماءِ، صورةَ الحاضرِ
معَ الوضْع النهائيِّ لجسَد يبْكي
شخصاً مَا كان يُدعّمُ ورقةً ميّتةً
ترفعُها الريحُ،
بمُونُولوجٍ واهنٍ لا ينْتهي

يكْفينا نيْزكٌ
لكيْ نتوهّمَ حمايةً ونحنُ على الطريقِ
نعْبُر بلا سِماتٍ
ووجهةً نتْبعُها لا تؤدّي
إلى توقّفنا حيثُ يُفرَغُ الرأْسُ
ولا أحلامَ عن ذلكَ نعبِّرُ بها
إذْ نكونُ باسْتمرار على أُهْبة الرّحيلْ

4- في حضْرة التكْوين
لوْ أنّكَ منْ جَديدٍ ركّبْتَ الصُّورَ التي تتركُها
أهدابُ الزبَد فوق الحجَارة مبعثرةً:
بعد ارْتدادِ الأمواجِ، تخترقُ ديْمومتَها
صورٌ كهذه وهي متّصلةٌ مع حزْبِ البحْرِ
ستُوحِّدُ رنّةَ وحدَّةَ نغَمٍ
معاً سينْقلانِ نشيدَكَ إلى خارج الجَاذبيةِ
هذه الصّورُ تتضمّن بالفعْل لازمةً
معَ حركَةِ المدِّ والجزْرِ تتجاوبُ
حتى مرْحلتِها العَجيبةِ – مصحوبةً برمْزيةٍ
حول العالمِ الحسّيِّ والعالمِ المحْجُوبِ
تلفُّ هذه الدنيا والدنيا الأخْرى بإيقاعِ
فواتحَ مُلغزةٍ معْزولةٍ
بمواردَ شبْه مُرصّعةٍ لهذه الحُروفِ
الاعتباطيةِ التي تُلامسُها الريحُ بلُطفٍ
وتتفرّعُ حتى اللّانهايةِ – البحرُ الذي تراهُ هنا
في ابْتهاج الفجْر سيَسْتضيفُ مرةً أخرى حُلْماً
بلّوْرياً وعند المناسبة تنتهي صفتُه
كبحْرٍ آخرَ حيثُ الأساطيرُ تبلغُ نهايةَ موْتها

5- نقطة الانْحجَاب
هيَ ذي الفُرجةُ التي منْها ابتعدَ وهْو هَاربٌ
خارجَ حُدود الوعْي – كائنُ السّفَرْ.
كان المتجوّلَ الغريبَ، أحَداً
دعتْهُ علاقتُه مع الأوقْيانوس أنْ ينْقلَ خُطواتهِ
آلياً، على امتدادِ ما يُوشْوشُ بهِ من الكلماتِ،
إلى حافّةِ طيْفِ حُضورهِ الشخْصيّ؛
كان يمكثُ بعيداً عنْ قُدومِ الظّلالِ
يقول ثمةَ لديْهِ عُدّةٌ بكاملها للهُروبِ
معَ هَدير الأمْواج، سماءٌ تلهُو،
وطيورٌ تحومُ فوق الشاطئ
■ ■ ■

أحياناً يحدثُ أنّ هذا الفَضاءَ المُبعْثرَ،
وهْوَ يتقلّبُ في لمعَان المَاءِ
يظهرُ كما لوْ كانَ يصْعبُ الوصُولُ إليه. نتخيّلُ
أنهُ أخذَ مكانَ محطّةٍ للوقُوفِ
ومن هناكَ بيُسْرٍ نَرى الكواكبَ، الرَّغباتِ اللامُصوّرةَ،
تضيعُ في احْتدامها واصْطدامها،
بل يمكنُ أنْ نرى قواعدَ القَمر موْصولةً
بأقمارٍ قد انقضَى عهْدُها ابْتُلعتْ أو ظلَّتْ تُواكبُ
شمساً لا تزالُ صمّاءَ بتَشقُّقاتِ العدَمِ
وتتعايشُ مع دُوارِ اللغةْ
■ ■ ■
بغُموضهِ كانَ الضوْءُ يبدُو
استجابةً مكبَّرةً لضوْءٍ آخرَ
مُجرَّباً في الدّاخل كما لوْ كان شبْهَ ظلٍّ.
بدَا لنا المحيطُ الأطلسيُّ منْ نصيبِ ما وَراءٍ شاسعٍ
على أُهْبة أنْ يسْتعيدَ كما في الأوّلِ
هذا الاسْمَ الغَسقيَّ الذي كانَ دائماً اسْمَهُ
وهو بهَذه التّسميَةِ المُفتقَدةِ
قريبٌ من أنْ يُجدِّدَ قُدْرتَنا على أن نسْتردَّ
أحْلاماً مُبعْثرةً أفكاراً تائهةً
لها في كلّ حينٍ شكلُ المصيرْ

6- ريْحانٌ ومحَار
لكيْ يتماسكَ صوتُكَ
في الأمْكنةِ كلِّها كاملاً مُتجانِساً
حتّى المُحيطِ بلْ حتّى ما وَراءَ
فضاءِ هدْأتهِ
هُو ذا ريْحانٌ ومحارٌ
ظِلُّ اليديْنِ واللحْظةِ
المَجازيّةِ التي تمْنحُ أسطورةً
لكُلّ حجَرةٍ – تُكرّسُ
وعْداً بجُزُرٍ لها لونُ الأُرجُوانْ
هناكَ عنْد الأمواجِ المُتدفِّقةِ
امْنحِ اسْماً يتذكّرُ
يكُون حَاضراً ومَاضياً متخيَّليْنِ
خُصوصاً لتلك الموْجةِ التي دائماً
لا تعودُ على الشكْلِ ذاتِهِ
إنْ هيَ نفْسُها التي كانتْ تعودُ
امْنح اسْماً يهْمسُ
في البَديل البحْريِّ
مثل قُربانٍ يتمدّدُ
عند نجْمةِ الصّباح بغُيومهِ الحمْقاءِ
حظُّ مشّاءٍ لا مَلامحَ لهْ

7- نجْمةٌ نائيَة
هيَ ماسَةُ منْتصَفِ الليْلِ الغامضةُ
فيها الفكْرُ يتعرّفُ
وهو ذائبٌ في فيْض الدُّوارِ
على الّلمْعةِ المُخْتلِجةِ للسَّهراتْ
هيَ باسْتمرارٍ مُكذَّبةٌ
مُبعثَرةٌ كلُّها أثناءَ الفجْرِ
عندما سحْرُكَ يتبدّدُ
ثم إنكَ تستعيرُ صورةَ
الأبديّةِ منْ هذه الصّخْرةِ الخرْسَاءِ هناكَ
كما لوْ كانتْ منطقةً لما نيْأسُ منْهُ
تلْمسُ ظاهرَ الأوهامْ
معَ ذلك ثمةَ صُورةٌ أخْرى
في كلّ مكانٍ حَاضرةٌ، كمجْموعٍ سرْديٍّ،
بمثابةِ مُطْلقٍ هَامسٍ وجَمالٍ رائقٍ وفقُدانٍ
لا تُريدُ معه أنْ تعِدَ بشيْءٍ منْ أسْفارها

إنّها موْردُ زفَافِ رُوحكَ العطْشَى
واحةُ ما قبْل النّوْم وحضورٌ عارضٌ
في مُفْترقِ طُرقٍ يؤدّي سهْواً
إلى خَلاءْ

لهَا خلاخيلٌ ذاتُ طاقاتٍ نائمةٍ
حبالٌ ذهبيةٌ تشدُّ لباسَها
لها أصْماغٌ تعطِّر بها شايَ الضُّيوفِ
وقدرةٌ على قياسِ
حَبِّ العجَائبِ
بنَوابضِ الكُروبِ الخفيّةْ

تُعلِّلُ بحديقةٍ
منْ ظلالٍ كأنما افتتانٌ
حتى تنثُرَ القرْمزيَّ المؤثّرَ
لوُرودها الذّابلةِ
على صَفاءِ وحْيِ الصباحْ


منعطف جذري في الأدب المكتوب بالفرنسية
تعرفت على الشاعر مصطفى النيسابوري في البداية من خلال العدد الأول، الصادر عام 1966، من مجلة Souffles «أنفاس» التي كان مشاركاً في تأسيسها إلى جانب عبد اللطيف اللعبي. هي مجلة أدبية، فنية، ثقافية، ذات توجّه طلائعي، تجمع شعراء وكتاباً بالفرنسية في البلدان المغاربية. إعجابي بالمجلة كان يزداد مع تلاحق صدور الأعداد. ومن عدد إلى آخر، كان النيسابوري حاضراً بقصائد ونصوص ودراسات. ثم تجدد اللقاء من خلال مجلة Intégral التي أسسها صحبة محمد المليحي عام 1971، مجلة ثقافية، ينحصر اهتمامها في الأدب والفنون. وفي عام 1986، التقينا مباشرة بمناسبة مهرجان الشعرين العربي والفرنسي في مدينة غرونوبل. كنا معاً من بين المشاركين في هذا المهرجان التاريخي، الذي جمع نخبة من أبرز الشعراء العرب آنذاك إلى جانب نخبة موسعة أيضاً من الشعراء الفرنسيين. وعلى إثر هذا المهرجان، انبثقتْ بيننا أخوّة شعرية، أفضتْ إلى تعاون تميز على الدوام بالجرأة والحرية والوفاء المتبادل. لم ينشر مصطفى النيسابوري، حتى الآن، سوى أربعة أعمال شعرية في كتب. مع ذلك، فإن ما قرأته له، عبر عقود من الزمن، قرّبني من كتاباته ودلّني على الحوار المتواصل معه والإنصات إليه. مصطفى النيسابوري شاعر بنى شعريته الخاصة، منذ عمله المرجعي «الليلة الثانية بعد الألف»، الذي صدر عام 1975، ولقي صدى واسعاً في أوساط الدارسين والباحثين لأنه شكّل، بطريقته الجديدة في الكتابة، منعطفاً جذرياً في الأدب المكتوب بالفرنسية في المغرب. بهذا العمل الشعري، افتتح النيسابوري مساراً امتد ونضج خلال خمسة عقود، أعطى فيها أعمالاً ذات نفَس مستمر، ما يسمح بالنظر إليها كعمل (أو كتاب) واحد، إضافة إلى أنه أول شاعر مغربي أنتج، مع مطلع الثمانينيات، أعمالاً مشتركة مع فنانين تشكيليين مغاربة، في شكل كتب وحقائب فنية، تجعل منه رائداً في هذا المجال.
ذلك من بين ما غذّى لدي رغبةً صامتةً في ترجمة منتخبات من أعماله، تعود إلى فترات مختلفة وتتوزع عبر أجناس من الكتابة. بها يمكننا الإطلاع على مغامرة الرحيل لدى شاعر تشبث دائماً بالشعر. وهو ما أتمنى أن يكتشفه القارئ، من خلال هذه المنتخبات التي أقدمت بالتعاون الكامل مع الشاعر على ترجمتها.

* مِنْ «كلمة» المترجِم الشاعر محمد بنيس التقديميَّة للمختارات