تتركنا أحياناً الطبيعة نتأمّلها فقط. وحين ندرك كم هي لطيفة أو عنيفة، فإن الحديث عنها يبقى سؤالاً وجودياً من أسئلة الفن. نكتب كثيراً عن المطر، وأحياناً نكتب من تأملاتنا له وأحياناً لنشعر أنه يشبه ما يحدث داخلنا. أليس ذلك ما يحدث حولنا من كوارث طبيعية؟ فهل نقلد الطبيعة في عذوبتها؟ ولماذا تقسو إلى هذا الحد؟في رواية المكسيكي خوان بيّورو «محاضرة في المطر» (ترجمة جمال مبارك ـــــ منشورات تكوين)، سؤال عن مطر أغرق قصائد الشعراء، ذلك الموضوع الذي يجعلنا نفكر في ما هي أهميته. لكننا في الوقت نفسه ندرك أنه يملأ أدبنا وأحلامنا الصغيرة والكبيرة. ننسى أنه رغم عذوبته، يذكّرنا بأشياء أخرى حدثت معنا. ربما يجعلنا نفكر ألّا نكتب عنه فقط، بل أن نتركه يسقط أمامنا فنعترف بهشاشتنا تماماً كما تفعل الزلازل والعواصف والرياح...


في الرواية، أستاذ جامعي يحاول أن يجمع أفكاره ليقرأ محاضرة في المطر، لكنه يدخل في شرود طويل يأخذنا إلى اعترافاته الخاصة عن الحياة، فيقول: ما المحاضرة إن لم تكن شروداً منظّماً؟ ولكن ذلك الشرود يصبح موضوعاً للرواية التي تقاوم موضوعها وتتخلى عنه، فيتأمل عبر المطر أشياء أخرى، كالحب والكتب والحياة والشعر والكتابة. إنها إذاً ليست رواية عن المطر، بل من خلاله كأنها تمر كحديث سري أثناء تساقط المطر أمام نافذة بيت، بينما تبدأ الاعترافات...
كان أهم الاعترافات هو أنه رغم عمله في مكتبة، الا أنه لم يعرف كيف يتحدث إلى أبيه. يقول: «أعتقد بأن الأشياء كلّها متصلٌ بعضُها ببعض». هنا يجعلنا الكاتب نفكر في جدوى الأدب، أو كيف تتصل تلك الكتب بالحياة، وأنه من أول الدروس التي نتعلمها من الطبيعة هو الإصغاء إليها، والتعلم من إيماءاتها المختلفة.
الكاتب يبتعد عن موضوع المطر، كأنه يريد أن يقول أشياء أخرى ربما أهم من ذلك، أو ربما لأنه يريد أن يقول إنّ الأدب الحقيقي، يأتي من ذلك اللقاء بين الحياة والطبيعة.
وهنا أيضاً نفكر أنّ المطر ليس فقط موضوعاً، بل إن سقوطه بتلقائية هو ما يجعل الكاتب عفوياً وتلقائياً، يتهرب من ذلك الموضوع، لكنه في الوقت نفسه يدخل الى أعماق نفسه ليجعلنا نشاهد كيف يتقاطع مع أشياء أخرى حوله. هكذا ربما تلهمنا الطبيعة للحديث عنها بطريقة غير مباشرة، فنذهب بعيداً عنوة. إنّها هنا داخلنا تحفّز فينا أشياء أخرى، ولهذا يتناسى موضوع المحاضرة ليجعلنا نتساءل لماذا؟ هل هو عدم أهميتها بالنسبة إليه أم أشياء أخرى، أم لأن الموضوع الذاتي والشخصي هو جزء مهم مما يريد قوله. فالمطر هو ذلك السقوط المتداعي للأفكار والأسئلة في ذهنه. المطر ربما هو تلك المشاعر التي كان يخبئها لحبيبته من دون أن يقولها أو ربما هو تلك الرواية التي بين أيدينا من دون أن نعرف...
تمر الاقتباسات على طول الرواية كأنها تذكرنا بأنّ ما يحدث مع هؤلاء الشعراء، يحدث أيضاً في الحياة، وليس فقط في الكتب، فالموضوع ليس موضوع محاضرة، إنما ما يحدث. فهو يحدث في الخارج وفي الهواء كما يمر المطر قبل أن يسقط على الأرض. يذكّرنا بذلك في بداية الرواية: «الأدب هو ذلك المكان حيث ينهمر المطر»، فتمر عبارة دانتي: «ينهمر المطر في الخيال السامي»، كأنه مدح لذلك الخيال الذي يأخذ الشعراء بعيداً نحو مناطق دافئة. وتمر عبارة الشاعر ليوبولدو لوغينيس الحزينة: «الدمعة الكامنة في كل قطرة تنهمر» لتذكرنا بالحزن، وكم تكون الطبيعة حزينة أو تعكس حزننا الداخلي. وتلك العبارة للشاعر إليسيو دييغو: «كأن دموع الآخر تنساب على وجهي»، لتوحي بالإحساس بالآخر وكأن المطر رسالة خفية.
المطر هو ذلك السقوط المتداعي للأفكار والأسئلة


ما تقوله الطبيعة أحياناً، نعجز عن فهمه، كما قال آلان بوسكيه: «الوجود كتاب ضخم، نقرأه بلا توقف، وسرعان ما نكتشف أنه كُتب بلغة أجنبية لا يمكن فهمها أبداً». لذلك نشعر أحياناً أنها تصبح مرآة لما يحدث داخلنا، هذا ما تحاول الرواية أن تعكسه أو توحيه. فما يحدث في الخارج، يترك آثاره في الداخل. يحاول الأدب أن يقول أشياء كثيرة عما يحدث للإنسان وهذا أعمق من مجرد وصف للمطر، ما يلامس الإنسان في الداخل هو الأهم وهو الذي يبقى أيضاً.
ربما أراد الكاتب أن يأخذنا في رحلة عبر المطر من دون الشرح والحديث الأنيق عنه، من دون تلك المحاضرات، لنتأمل أكثر في أسئلة تشغلنا، لنقول كم تبدو الطبيعة حزينة أو فرحة أو خائفة أو عنيفة، لا بد من أننا سنظل نتأملها ونكتب عن تلك الطبيعة التي تحدث داخلنا. أو ربما نتذكر دائماً هشاشتنا. ففي غموضها، نستحضر ذلك السري والغامض، ونتساءل: كم من الروايات كتبت عن المطر؟ وكم من الروايات كتبت عن الأشجار؟ وكم من الروايات كتبت عن الزلازل؟ بل إنّ هناك روايات كثيرة عن الأشجار، لعل أشهرها رواية أوفرستوري لريتشارد باورز ، وهي فقط عن الأشجار. ونحن نعلم كم كتبنا عن الأشجار وكم رأينا أنها تشبهنا. في هذه الرواية، يلتقي تسعة غرباء بعد كارثة طبيعية ليتحدثوا عن تجربتهم مع الأشجار وليكتشفوا أثر الغابات علينا كبشر، ولكنها أيضاً عن تلك الرؤى الفلسفية والحوارات بيننا وبين الطبيعة.
في رواية «المطر» القصيرة التي لا تتجاوز الثماني والخمسين صفحة، نعثر على مطر آخر لا يغادر وجهنا من دون أن نسمع الكثير عنه.