لا تزال مجلة «الدراسات الفلسطينية» تشكّل حالة جميلةً في العالم الثقافي بعد عقود على إصدارها للمرة الأولى عام 1971. المجلّة التي يرأسها المؤرخ الفلسطيني رشيد الخالدي، تخوض في عددها الجديد (133- شتاء 2023)، في ثلاثة محاور: الانتخابات الصهيونية التي أفردت لها ملفاً، شارك فيه: أنطوان شلحت، رندة حيدر ورازي النابلسي. المحور الثاني هو «عرين فلسطين» الذي يحاول سبر واحدةٍ من التجارب الفلسطينية المقاومة ذات البعد الخاص مع الباحثين: عبد الجواد عمر، مهند عبد الحميد، سعيد أبو معلا وعبد الباسط خلف ويامن نوباني. وأخيراً، يأتي محور الأسر ومعاناته و«جلاوزة» السجون الصهاينة مع: الياس خوري، عبد الرحيم الشيخ، مشهور البطران، أشجار عجّور وشادي الشرفا.

المحور الأول من المجلة التي ازدان غلافها بلوحةٍ رسمها الأسير وليد دقّة (الذي يعانق الحرّية قريباً)، أضاء على تراجع اليسار الصهيوني، وتنامي اليمين الصهيوني، وربما حتى تخليق ما بات يسمّى بـ«الصهيونية الدينية». بحسب الباحث الفلسطيني أنطوان شلحت (مقالته «تطلعات الصهيونية الدينية: الدولة اليهودية أولاً»)، فإنّ «الصهيونية الدينية» تتألّف من «الاتحاد القومي برئاسة بتسلئيل سموتريتش، قوة يهودية برئاسة إيتمار بن غفير، ونوعام برئاسة أفيغدور معوز. هذا اليمين الصهيوني الجديد يحاول تخليق حاجز بينه وبين اليمين القديم الذي يتبنى أفكار زئيف جابوتنسكي (أحد مؤسسي الحركة الصهيونية، ويمتاز بصلابة وبراغماتية في آنٍ معاً). إنه تحالفٌ ديني لا يغطي نفسه ولا يستحي من إعلان أفكاره علانية؛ مورداً جزءاً من مقالة وزيرة العدل الصهيونية السابقة عيليت شاكيد التي أشارت فيها إلى أنه «كلما كانت إسرائيل أكثر يهودية، كانت أكثر ديموقراطية». الأمر نفسه تشرحه الصحافية اللبنانية رندة حيدر، في مقالتها «إسرائيل بعد انتخابات 2022» التي أبرزت فيها اليمينية الدينية العنصرية الصهيونية التي باتت ظاهرة أكثر من ذي قبل. بدوره، غاص الباحث الفلسطيني رازي النابلسي في حالة فلسطينيّي الداخل المحتل، موضحاً أنّ الأمر آخذٌ إما في «الاندماج» أو «المواجهة». يشير النابلسي إلى أنَّ «إسرائيل تحوّلت إلى قوة إقليمية مأزومة داخلياً، تعيش صراعاً بشأن هويتها السياسية... وتدفع هذا الصراع معهم - أي الفلسطينيين - إلى صراع ديني». وفي محور «عرين فلسطين»، ينطلق عبد الجواد عمر، ليشرح في محاضرته «المعركة مع الاحتلال كأنها حربٌ داخلية» أن المعركة مع الاحتلال تدور على أصعدة عدة، أهمها إشارته إلى «الحاضنة الاجتماعية للفعل المقاوم»، أي القتال على المجتمع الفلسطيني. ويورد تعبيراً مستمداً من مكالمة بين القياديين الشهيدين من «عرين الأسود» وديع الحوح وفاروق سلامة: «بدنا نخلي الناس تصحصح». وفي مقالته «مجموعات المقاومة الجديدة بديل وطني ورث الفراغ»، يشرح الباحث الفلسطيني سعيد أبو معلّا كيف أن «الأسود» هم جزءٌ أساسي من نسيج النضال، الذي لن يتوقّف. وفي مقالته، يتناول الصحافي الفلسطيني يامن النوباني، فتحي خازم «أبو رعد» والد الشهيدين رعد (استشهد في عملية في شارع ديزنغوف) وعبد الرحمن (استشهد في مخيم جنين في مواجهات مع القوات الخاصة الصهيونية المؤازرة بالدبابات)، وأحد المطاردين الأشهر حالياً في فلسطين المحتلة، لا بصفته والداً لشهداء، بل كعلامة رمزية لاستمرار النضال وتكثيفه. فهو كان قد أعلن أنه «لن يسلّم نفسه للاحتلال» مع أنه «يظهر» في مناسباتٍ كثيرة بشكلٍ علني في تحدٍّ صارخ للاحتلال وقوته. «في هذه الصورة الاجتياحية» مثلما وصفها استاذ الإعلام في «جامعة القدس» أبو ديس نادر صالحة، يمشي المناضل في أزقة جنين بحماية الناس، في صورة تجسّد استفتاء شعبياً حول جدوى المقاومة.
وفي محور «السجين والجلاد»، يتناول أستاذ الفلسفة في «جامعة بيرزيت» عبد الرحيم الشيخ في مقالته «الشهداء يعودون إلى رام الله» رؤيته حول قوة «الحركة الأسيرة» ومقدرتها الفذّة على المقاومة، مستشهداً بكتابات الأسير وليد دقة ابن قرية باقة الغربية الذي دخل الأسر عام 1986 (سيخرج منه قريباً). وفي إحدى أجمل مقالات العدد، يشرح الأكاديمي والباحث مشهور البطران في مقالته «الإضراب عن الطعام: شاعرية المحنة وقوة الهشاشة»، كيف أنَّ «الجسد لغة»، وأن التوقف عن الطعام هو «الأكثر قسوة بين أنواع الاحتجاج»، وأنه بذلك يتحوّل إلى رسالة مباشرة: «الحرية أو الموت». ويعرّج على الباحث جين شارب (منظر الحرب الناعمة الشهير) وحتى على روايات لكتّاب معروفين أمثال اليوناني نيكوس كازانتزاكس؛ وصولاً إلى شرحه حالات «إضرابية» شهيرة مثل: المهاتما غاندي، بوبي ساند والجمهوريين الإيرلنديين، مانديلا وحزب المؤتمر الوطني، حزب العمال الكردستاني، وصولاً إلى سجناء غوانتانامو في تسعينيات القرن الفائت. إنها «شاعرية» المحنة، فالجوع «أقسى المحن» وكما تقول إيملين بانكهيرست: «فقط الأشخاص الذين يحسّون بشعورٍ لا يحتمل من القمع، هم من يتعيّن عليهم تبنّي مثل هذا التكتيك المتطرف».
وفي مقالته (خارجة عن السياق تماماً) المعنونة «براغماتية حزب الله خارجياً وصرامته داخلياً»، يقع الكاتب زياد ماجد في فخ البروباغندا التي تهاجم الحزب اللبناني، فيشير إلى أنَّ الحزب وافق على الاتفاق حول ترسيم الحدود البحرية لأنّ «حزب الله عدّه فرصة لفرض نفسه كفاعل سياسي في هذه المعادلة، تعترف العواصم الغربية بدوره، وتضطرّ اسرائيل إلى التعامل غير المباشر معه. وهو قَبِلَ بالتالي باتفاق مشروط ومجحف للبنانيين». ويعود بعد ذلك ليربط موقف «حزب الله» بإيران بشكلٍ غير موارب: «وما بدا جلياً في أهداف حزب الله، الموافق عليها، أو المدفوع إليها إيرانياً هو الرغبة في إبقاء قنوات الاتصال مع واشنطن، والتوظيف الإيجابي للورقة التفاوضية اللبنانية عوض التوظيف السلبي لها، في مسار تسهيل العودة يوماً ما إلى التفاوض النووي» فضلاً عن وسم حزب الله بتوصيف «الشيعي» و«ديكتاتور/ متحكّم» بالداخل اللبناني، وبأن ما فعله - أي الاتفاق - هو هدية للرئيس المنتهية ولايته ميشال عون. المقال برمّته غريبٌ وجوده بهذا الشكل في مجلةٍ مثل هذه، فمنطقه كما لغته لا يناقشان سلوك حزبٍ مقاوم لا يزال حتى اللحظة يحمل سلاحه علانيةً في مواجهة الاحتلال الصهيوني، بمقدار مهاجمته، ورجمه، وإطلاق توصيفات غير علمية/ دقيقة عليه.