البشر مسكونون بالأماكن، سواء أحبوها أم هجروها بحثاً عن غيرها، فالجسد موجود بارتباطه بالمكان المادي قبل أيّ شيء. لكن ما الذي يجعل من مكانٍ معيّن ذا أهمية أو معنى؟ في كتابه «ممارسة الحياة اليومية» (1980)، يشرح عالِم الأنثروبولوجيا والمؤرخ الفرنسي ميشال دو سيرتو عن أهمية تحليل ممارسات الأناس العاديين وأولئك المُهمَّشين، فالتنقل، والمشي، والتحدث، والسكن، والطبخ، وغيرها من ممارسات الحياة اليومية وسلوك الأفراد لها دلالات ثقافية وسياسية هامة. يميّز دو سيرتو بين المكان (Place) كموقع جغرافي جامد من فعل السلطة (سواء أكانت حكومة أم أي نوع آخر من الإدارة) والفضاء المكاني (Space) المرتبط بالحركة والفعل الذي عرّفه بـ «المكان المُمارَس/ المكان العملي» (التعبير الذي اشتهر فيه في الأوساط الأكاديمية). إذاً، يحوّل السكان المكان إلى مساحة خاصة بهم، تعكس ثقافتهم ورؤيتهم للحيز المكاني الذي يعيشون فيه. تُعد ممارساتهم وتصرفاتهم بمثابة تكتيكات يقاومون من خلالها استراتيجية القوة المهيمنة ويستغلون الأحداث بتحويلها إلى فرص. لكنّ المكان أيضاً بحسب أستاذ الأدب الألماني والأدب المقارن في «جامعة كولومبيا» أندرياس هُويْسن هو «طِرْسٌ»؛ أي صحيفة أو مخطوطة طُمست كتابتها، فتُستعمل لكتابة نص جديد عليها. ما يميّز الطرس أنّ النص القديم مُحِي لكنه لم يختفِ بالكامل، فهناك آثارٌ تبقى راسخة حتى عند إضافة طبقة جديدة، ما يعني أنّ المكان بحسب هويسن ليس لديه تاريخ واحد بل طبقات عدة، يحاول التاريخ الجديد طمس ما سبقه، لكنّ بعض آثار الماضي تعاند التغيير وتبقى شاهدة على ماضٍ كان حاضراً في السابق.

في «بناية تي. في. تاكسي، الصنوبرة، رأس بيروت» (دار نلسن ــ 2023)، يحاول الروائي اللبناني زياد كاج حفظ ذاكرة شارع الصنوبرة ومنطقة الحمراء- رأس بيروت، من خلال التركيز على تاريخ «بناية الزاهد» وسكانها المتنوّعين في انتماءاتهم الإثنية والطبقية والحزبية. بين دفتَي الكتاب الممتد على 221 صفحة من القطع المتوسط، يعرض الكاتب 25 مقطعاً (يمكن اعتبارها فصولاً قصيرة مرقّمة لا عناوين لها) تختزل سيرة هذا الفضاء المكاني عبر حوالي خمسين عاماً من تاريخ لبنان السياسي والأمني. نتعرّف إلى بيروت وتبدّلات معالمها وسكانها وأحوالها عبر لسان الراوي، ابن ناطور البناية «أبو رياض»؛ المثقف الذي يقرأ جريدة «النهار» الذي استطاع كسب فرصة العمل ناطوراً في البناية بعد الاستقلال، بسبب حادثة سرقة أخيه لبارودة جندي فرنسي من ثكنة فردان.
ينقسم الكتاب في سيرة المكان الذي يرويه إلى ثلاث مراحل زمنية عاشها لبنان، يمكن مواكبتها من خلال تبدّل اسم العمارة ذات السبعة طوابق، من بناية «الزاهد» إلى «تي. في. تاكسي» (و«الدبّاغ»)، قبل أن تصبح اليوم معروفة باسم «بناية الزيتونة». هذه البناية (والمنطقة التي توجد فيها) هي طرسٌ بحسب هُويسن، مخطوطة دوّنت عليها طبقات من التاريخ والتغييرات التي تطمس حالها السابق، لكنّ معالمها وذكرياتها لا يمكن محوها بالكامل وإن تبدّلت بنسبةٍ مرتفعة. في الستينيات وصولاً إلى ما قبل الحرب الأهلية، امتدت «بناية الزاهد» على شكل زاوية إلى جوار بنايتَي «الصنوبرة» والـ«نيو صنوبرة»، في الشارع الذي اكتسب اسمه من شجرة صنوبر كبيرة معمّرة في مكانها. احتوت العمارة بحسب الراوي، ساكنين من جنسيات وإثنيات وخلفيات دينية وطبقية مختلفة، فكان من بينهم الخياط أبو سامي من مغدوشة، والخواجة جان مايك من جماعة شهود يهوه، والنجار سليم، و«الجوهرجي» الأرمني وعائلته، وآل حداد وخادمتهم اليوغسلافية، وآل بورسالي الذين صادرت الدولة في مصر أراضيهم في الصعيد، ومدام طعمة العراقية المثقفة، ومدام سعادة التي انتحرت ابنتها. ومن الجيران في الحي آل غالي وعيتاني وصيداني وبعض الأشخاص المعروفين مثل المطرب والملحن السعودي طلال المداح. يسرد كاج تفاصيل تلك الفترة من وسائل التدفئة «الشوفاج» إلى سنترال تحويل الاتصالات من غرفة الناطور إلى الشقق، والسيارات الأميركية الضخمة المركونة في الشارع، إلى معالم المنطقة بقوله: «كنت أتكئ على الحافة وأنظر بوعي صبي يحاول فك أسرار المشهد المتنوع: علم الموحّدين الدروز بألوانه الخمسة يرفرف على مبنى دار الطائفة الضخم والأبيض اللون، مدرسة الطليان بملاعبها الكبيرة ومبناها العريق اختفت خلف الأبنية العالية المقابلة. إلى الشمال قليلاً، يظهر جزء من أوتيل البريستول العريق، ثم بناية البريستول، وقربها محطة الدمياطي للوقود».
يوضح زياد كاج أنّ حال الزاهد والصنوبرة وبيروت تبدّل في العاشر من نيسان (أبريل) عام 1973، حين قام العدو الإسرائيلي بعملية إنزال على شاطئ الرملة البيضاء واغتال القادة الفلسطينيين الثلاثة: كمال ناصر، كمال عدوان، وأبو يوسف النجار. في مطلع الحرب الأهلية، شهدت المنطقة «أوتيل هوليداي-إن» يحترق، وبعدها بفترة قصيرة، تحول ملعب مدرسة الطليان إلى بركة دماء إثر قصف العاصمة وحصارها. عانت الصنوبرة مثل معاناة المدينة من جوع وانقطاع في المياه والكهرباء، وافتُتح في الشارع مكتب عسكري لـ«حركة فتح» وآخر للخدمات الاجتماعية من قبل الحزب السوري القومي الاجتماعي. ومع دخول قوات الردع العربية، بِيعت البناية لثري سوري يُدعى أكرم الدباغ الذي اقتطع من مساحة المدخل لبناء محالّ للاستثمار، كان من بينها مكتب «تي. في. تاكسي» للسفريات ونقل الركاب إلى سوريا والأردن. قَدِم سكان جدد إلى البناية «من الطبقة الوسطى من أساتذة جامعيين ومتعلّمين ومثقفين، من بينهم: الروائي رشيد الضعيف، والباحث شوقي الدويهي، والكاتب المسرحي أسامة العارف، والمهندس بهيج حاوي (شقيق جورج حاوي) والرسام هاني صالح الذي قُتل على الهوية وهو يعبر من «الشرقية» إلى «الغربية».
بعد ثلاث سنوات من تنفيذ عملية اغتيال «الأمير الأحمر» أبو حسن سلامة في عام 1979، أصيبت البناية بشظية كبيرة إثر اجتياح العدو الإسرائيلي للعاصمة ومحاصرتها وضربها، فغادرها سكانها. وفي عام 1984، «اغتيل المربي ميشال واكد والفيلسوف حسين مروة والدكتور مهدي عامل. فشهدت بناية «تي. في. تاكسي» هجرة عائلات ورموز يسارية خوفاً من بطش الميليشيات الطائفية الصاعدة». لكنّ المرحلة الزمنية الثالثة التي شهدت التبدّل الأبرز في حال الصنوبرة والعاصمة كانت في تسعينيات القرن الماضي مع قدوم رفيق الحريري وسكنه في القريطم، حينها «تحولت المنطقة إلى منطقة أمنية». يعلّق الكاتب على أثر تلك المرحلة بقوله إنّ «الظاهرة الحريرية» أدخلت «مفاهيم جديدة على المدينة وناسها: إثراء سريع، ميل إلى المظاهر والشكل وولع بالسيارات الفارهة والبزّات الرسمية».
يُنهي كاج في المقطع 25 والأخير من سيرة هذا المكان، بخبر بيع العمارة لأخوين من عائلة شاهين؛ فصار اسمها اليوم «بناية الزيتونة» وأزيلت عنها لافتة «تي. في. تاكسي». هجرها سكانها و«حلّ مكان هؤلاء سكان جدد لا لون لهم ولا طعم، بلا وجوه وبلا ماضٍ، يدفعون إيجارات خيالية»، فقانون الإيجارات الجديد أتى مجحفاً بحق المستأجرين القدامى وصبّ في مصلحة المالك. يختم الراوي حكايته بمقطع من قصيدة «العمة يامنة» للخال عبد الرحمن الأبنودي للتعبير عن حنينه إلى من رحلوا عن الصنوبرة والدنيا، واستيائه من الحاضر «دا زمن يوم ما يصدق كذاب».
يركز على تاريخ «بناية الزاهد» وسكانها المتنوّعين في انتماءاتهم الإثنية والطبقية والحزبية


في المحصّلة، هي سيرة مكان خطّها سكان منطقة الصنوبرة و«بناية الزاهد» بممارساتهم الحياتية اليومية، باختلافهم وتنوعهم وضحكاتهم ومساندتهم لبعضهم في أيام الحرب وبمقاومتهم للخوف والحصار والجوع، رواها أحد سكانها بلغة بسيطة إيفاءً لهذه البناية (والمنطقة) التي شكّلت وعيه وثقافته. يبقى سؤال يطرح نفسه عند غضبه واستيائه من تغيّر حال المنطقة، تظهر «زلات» أو بضع عبارات متفرقة تبدو غير لائقة (حتى لا نقول فيها شيئاً من العنصرية) يرميها الكاتب على من يرى أنّهم مشتركون في هذا الفعل، مثل حديثه عن عائلة وأولاد الناطور الجديد أبو علي الذي حلّ مكان والده «ينزلون الدرج ويصعدونه كأنهم في حقل في القرية»، ووصف أحد المقاتلين «يأتي على كتفه الكلاشينكوف» و«القضية»، فيدخل الفرن ثم يخرج بعد قليل حاملاً بوقاحة عدداً من الربطات، في الوقت الذي كان فيه الناس يقفون في طابور طويل للحصول على الخبز. وحين تحدّث عن جنود الحاجز السوري القريب من مركز «المرابطون»: «مرت لحظات متوترة وهم يحدقون فينا بشيء من السخرية والاستخراء»، وعن «أبو ناصر» الفلسطيني الذي قدم إلى البناية «لم تكن زوجته تأخذه على محمل الجد.. ابنه الأصغر المتهور... وقف يخبرنا عن فيلم سكس شاهده في سينما البافيّون... نظرنا إليه مصدومين صامتين وهو يتحدث بشيء من بلاهة الاكتشاف الأول». لربما قصد الكاتب من خلال كلامه أن يظهر رؤية المجتمع في تلك الفترة، لكنّ ذلك لم يكن واضحاً.