1
استفقت باكراً. صداع شديد يعشش في رأسي سببه نقص في الكحولْ. توجّهت إلى المطبخ. فتحت الثلّاجةَ.
من النّادر ألا تكون هناك علب جعةٍ. عدت إلى الفراش. حاولت أن أنام مجدداً إلّا أنّي فشلتْ. أحسّ بجسدي يئنُّ. لا أقصد أن به ألماً. جسدي مرهقٌ.
توجّهت إلى الحمّامْ. ملأت الحوض ونزعت كلّ ملابسي واستلقيت في الماء الدّافئ.
عادة ما يريحني هذا الفعلُ إلّا أنّي أحسست بقلقٍ. في كلّ حركة أقوم بها أسمع صوت الماء. يصيبني ذلك الصوت بتوتُّر شديد. حاولت أن أبقى ساكناً. خرجت من الحمّام. لففت نفسي بمنشفة حمراءَ. أعتقد أنّ ذلك اللّون يسبِّب لي مشكلة في الرؤيةْ.
عدت إلى غرفة النّوم. أغلقت كلّ منافذ الضوء واستلقيت على السّرير.

رُوبنز ـــ «پْرُومِثْيُوسْ معذَّباً» (زيت على قماش، 1618).

الآن أرى قمراً يضيء ركن الغرفة. بين كلِّ فترة يمرُّ طائر أمام القمرْ. أعتقد أنّه خفّاشٌ. بعد قليلٍ أصبح عدد الطّيور كثيراً جداً. ضوء القمر أصبح مشعّاً. بالرّغم من أنّ السماء صافية إلّا أنّي أحسُّ بقطرات مطرٍ تتساقط على جسدي. هربتِ الطيورُ من الأمطارِ واتّجهت نحوي. عشّشتِ الطّيور على جسدي في حين حاول بعضها أن ينقر عيني. لا أحسُّ بألم إلّا أنّي أحسّ بخوف. بعد أن فقأ عيني، دخل الطّائر الأول إلى جمجمتي وأقام بها عشاً. طائر جديد دخل من عيني الأخرى. عدد كبير من الطّيور دخلت من فمي وعشّشت في بطني. انتفختُ. كلّ الطّيور أصبحت داخل جسدي. لا أستطيع الحركة. حاولت مراراً أن أتقيّأ كلّ الطّيور التي تسكن داخلي إلّا أنّي فشلت. بدأت الطّيور بتناول أعضائي الداخليّة. لا أحسّ بألم إلا أنّي أحسّ بالفراغ. أكلت الطّيور كلّ ما يوجد داخلي. أصبحت جسداً فارغاً. حاولت الطّيور أن تغادرني بعد أن أصبحت مجرّد هيكل. أغلقتُ بقوّة عينيّ وفمي. كدت أن أنفجر إلّا أنّ الخوف منحني قوّة ما. أحببت أن أَسجن الطُّيورَ داخلي ربّما عندما تحاول أن تطير سيطير جسدي.
ما إن رنّ هاتفي حتى اختفت الطّيور والقمر وكفّت الأمطار.
أخبرتني نفسي الأنثويّةُ، أنّ قلبي مات.
2

وضعت المِفتاح في القفل. أدرته. فتحت الباب.
ما إن أغلقته، حتّى بكيتُ.
لم أفكّر بشيء. أغيِّر مكاني كلّ فترة. أحببت أن أبكيَ في كلِّ غرف المنزل. تفاديت الدّخول إلى غرفة النّوم. بكيت لساعة تقريباً.
توجّهت إلى المطبخ. ملأت إناء ماء. كلُّ فكرة تولد وتموت في جزء من الثّانية. يتبخّر الماء إلا أن الأفكار في عقلي تتراكمُ. وضعت ملعقتين من البُنِّ. حرّكت القهوة قليلاً. انتظرت أن تجهز. فاضت القهوة كما تفيض أفكاري. سكبت القهوة المحروقة في كأس. تناولت سيجارة. أشعلتها. مشَيتُ نحو الصّالون. جلستُ. أنظر للسيجارة تحترق. تذكّرت أن قهوتي أيضاً محروقةٌ. الأفكار في رأسي تتوالد بنسق مجنون. خفت أن أُجنَّ. فكّرت بحرق المنزل.
كلّ شيء يحترق يتحوّل إلى رماد. الرّماد لا حزن له.
وقفت. توجّهت نحو المكتبة. رمَيتُ كلّ الكتبِ نحو كلِّ الاتجاهات. تطايرت الكتب والكلمات. كسّرت زجاجة النبيذ الأولى. أتبعتها بالثانية. ارتحت لصوت الزّجاج المكسّر. كسّرت كلّ الزجاجات. توجّهت مجدّداً إلى المطبخ. كسّرت أغلب الصحون والكؤوس. تناولت سكّيناً. عدتُ إلى الصّالون. مزّقت الوسائد والمقاعد كلّها. قطّعت بعض الكتب ومزّقت أوراقاً أخرى. قلَبتُ الطاولة رأساً.
امتزجت القهوة المحروقة بالزّجاج والكتب وما تبقّى من الصّالون.
فكّرت أن أذهب إلى غرفة النّوم إلّا أني عدلت عن ذلكَ. توجّهت إلى الحمّام. نزعت كلّ ثيابي. ملأت الحمّام بالماء السّاخن.
أحبُّ أن أُحاط بالماء.
غطّستُ كامل جسدي. أعقبت رأسي.
أحبّ أن أفتح عينيّ تحت الماء. الرؤية تصبح ضبابيّة. الأفكارُ كذلك. صدى الأصوات يصبح مشوّشاً. صدى الأفكارْ كذلك.
خرجتُ من الحمّام. قطرات الماء سطّرت طريقي نحو المطبخ. تناولت سكّيناً. عدت إلى الحمام. دخلت للماء. قطّعت بالسّكين عرق رسغي الأيسر. حاولت ألا أقطع عرقاً آخر. وضعت يدي في الماء. أعتقد أنّ شيئاً داخلي تنفّس الصعداء.
بعد نصف ساعة، ربّما أكثر، أحسست بدوار خفيف. أحسست أيضاً بأعضائي تثقُل.
آخرُ شيء رأيته كان لونَ الماء الورديّ.
3

دخلت إلى المقبرة. أحمل معي رفشاً. أحفظ طريقي عن ظهر قلب. أمشي بخطوات واثقة نحو أعلى نقطة. شُيّدتْ المقبرة على جبل صغير. توجّهت مباشرة إلى المكان الذي أعرفه ويعرفني. أمضيت هناك أياماً طويلةً. قرأت شاهد القبر الرُّخاميّ. قطرات دمٍ خرجت من الحروف والأرقام. يسيل الدّم على الشّاهد. تلوَّن كلُّ الرُّخام بالأحمر. يزداد تدفُّقُ الدّم من الشّاهد نحو تراب القبر. حفرت قليلاً برفشي لتتكوّن دائرة صغيرة تتوسّط القبر. امتلأت الدائرة بالدّم الدافئ. وسّعت الدائرة. ازداد الدّم تدفُّقاً. أحاول أن أوسّع الدائرة أكثر لتستوعب كلّ الدّم. بقع الدّم على وجهي وشعري ويديّ. كلُّ جسدي اصطبغ باللّون الأحمر.
أحسُّ بدفئه. أحسُّ بدفء الدّم.
أصبح أمامي الآن قبرٌ دائريٌ أحمرُ اللّونِ. أصبح القبر شبيهاً بنافورة دم. فاض الدّم من النافورة. حفرتُ برفشي مَجَارياً للقبور الأخرى. أحببت أن يصل الدّم لكلّ القبور. عملت بنسق جنوني. أخيرا وصل الدّم إلى آخر قبر.
رفعت رأسي نحو السّماء. قمرٌ كاملٌ أحمرُ اللّونِ يتوسّط السّواد.
سمعت صوتاً يناديني. عدت إلى القبر المصدر. توقّف الدّم عن السّيلان من الشّاهد. يناديني الصوت الأنثويّْ. حفرت القبر الأحمر الدائريّ. وصلت اللّحد. أبعدته. توسّط القبر قلباً يدقُّ بنسق عاديٍ يتفرّع منه كمٌّ كبير من العروق نحو التّراب. سمعت أصواتاً أخرى تناديني. حفَرتُ قبراً آخر. قلبٌ آخرُ يدقُّ وعروق أخرى ممتدّة. حفرت كلّ القبور. كلُّ القلوب تدقّ بنسق جميل. كلّ القلوب تناديني بصوت أنثويّ؛ لم يرق لي أي قلب.
غادرت المقبرة نحو حانة قريبة. توجّه نحوي هيكل عظمي وفي يده كأس نبيذ. شربته. أعتقد أنّه دم بشريّْ. فار الدّم في بطني. تسارعت دقّات قلبي بشكل رهيب. تقيّأتُ. تقيّأتُ. تقيّأت حتى خرج قلبي منّي. تناولته برفق. عدت إلى المقبرة مسرعاً خوفاً أن يموت. حفرت فوق القبر المصدر قبراً آخر. وضعت قلبي فيه. ردَمته. أصبح قلبي مصدر الدّم لكلّ القبور.
عدت إلى الحانة. توجّهت نحو النّادل. تعانقنا. تلامس عظمه بعظمي. أصبحت هيكلاً عظمياً.
منذ أن مِتُّ، تراودني هذه الحقيقة كلّ ليلة.
4

تناولت رأسي بعد أن قطعته بسكّين حاد. وضعته بجانب المزهريّة التي بها زهرة حمراء أسقيها كلّ يوم بتفان شديد. تحلّل الرّأس ولم تبقَ سوى جمجمة جميلة متكوّنة من عظام. ملأت مكان الضرس الأيمن المفقود بقطعة صغيرة من عجين القنّب الهنديّ ثم تناولت الزهرة برفق وزرعتها في جمجمتي. في كلّ يوم، بعد عودتي من العمل، أتوجّه إلى الحانة لشرب بعض الجعة. دائماً ما أحضر معي علبة جعة لأمسح بمحتواها أوراق الزهرة. أضع يومياً، للجمجمة والزهرة، أغاني الجاز والبلوز لساعة تقريباً. كنت في السابق قد اقتلعت قلبي وزرعته في قبر ليكون مصدر الدّم لقبور أخرى. قضيت بقية حياتي من دون قلب والآن بدأت بالتّأقلم من دون جمجمة.
بدأت الوردة بالتّفتح وكان لونها الأحمر يزداد جمالاً. كلما تكبر الوردة كلما أرتاح أكثر في تحوّلي هذا. بعد مدّة بدأت بقراءة بعض الكتب للوردة ولجمجمتي. كنت قد اكتسبت هذه العادة من ذهابي إلى المقبرة في الأعياد لقراءة ما تيسّر من الكتب على قلبي أيضاً. قرأت أيضاً للوردة وجمجمتي نصاً كنت قد كتبته عن حياتي من دون قلب يحمل عنوان «كنت». في ذلك النصّ تحوّلتُ إلى هيكل عظمي بعد أن شربت كأس نبيذ كان النادل قد سقاني إياه. عندما تعانقت مع النادل تعانق عظمي بعظمه. قررت الآن أن أتوجّه إلى الحانة نفسها، وأطلب من النادل نفسه كأس نبيذ آخر. كان الطقس رائعاً جداً والشمس تتوسّط السماء الزرقاء. عندما وصلت إلى الحانة التي تجاور المقبرة، عرفني النادل مباشرة ومنحني كأس كونياك. بما أني لم أكن سوى هيكل عظمي من دون جمجمة، مسحت بمحتوى الكأس كل عظامي.
توجهت بعد ذلك إلى المقبرة لإحساسي بالحرّ الشديد الذي يغلّف عظامي. حاولت قدر المستطاع أن أحفر حفرة عميقة لأصل إلى مكان رطب. دخلت بعد ذلك إلى القبر الأخير ودفنت هيكلي العظمي. ظلام شديد طغى على المكان وسكون رهيب.
في آخر الحفرة كان هناك نفقان. في آخر كل منهما باب.
باب يحملني نحو القبر الذي دفن فيه قلبي والآخر يؤدّي مباشرة إلى جمجمتي التي بها وردة حمراء.
منذ أن ولدت مجدّداً، لم يرق لي أي اختيار.

* تونس