جلست على كرسيٍ عالٍ مثل كرسي السلطان، وطلعت عليه بطرّاحة سميكة وملونة؛ ثم نظرت إلى الرجال الواقفين الذين لم تعرف أحداً منهم؛ لم تعرف أيّهم صلاح؟ وعصام لم يكن بينهم؛ هو الآن مع الأولاد في الحارة، أو على تلة الرمل يلعبون بعدما بدأت الشمس تميل للغروب وبردت الرمال. لكنها لمحت خالها فؤاد من بعيد مع الرجال، كان مرتباً وأنيقاً، وأجمل الحاضرين، فنظر إليها من بعيد، وابتسم لها. يا الله، ما أجمله، وما أحلاه! فرحت ورقص قلبها، وتابع الخال طريقه ولم تلمحه بعدها. فهل يكون صلاح مثله وبجماله ولطفه ورقّته وحنانه؟ هل يكون خالها هو العريس؟ ليت ذلك.بعد إتمام إجراءات الزواج سألتْ أمها وقريباتها:
- هل مطلوب مني شيء آخر؟
ولما قيل لها إنّ لا شيء مطلوبٌ، ألقت المنديل أرضاً وخرجت حاملةً عروستها القماش، ونزلت لتكمل اللعب مع أترابها البنات في الساحة، وفرحن بها وبثوبها. سُئلت:
- هل العريس جميل؟،
فأجابت:
- ما عرفته من بين الرجال، سكتت، ثم قالت للبنات:
- سأقول لكنّ يا بنات شيئاً؛ سراً؛ ليت العريس يكون مثل... مثل... مثل فؤاد خالي. وضحكن.
وقبل الانصراف باحت بخاطر غريب لصديقتها راوية:
- ليت العريس كان خالي فؤاد. كنت سأطبخ له، وأغسل ثيابه وأرتب البيت، كما تفعل ماما للبابا.

كوروُ ــــ «البُنَيَّةُ ذاتُ الدُّمية» (زيت على قماش، 1840)

أجابت راوية أن زواج الخال من ابنة أخته حرام. كأن صديقتها لم تفهم عليها. يا الله، ما أثقل دمها! واستحيت أن تُطلع عصام عليه، فهو يفهمها أكثر، ويعاملها باحترام، لكنه صبي، ولا يجوز الكلام معه بهذه الأمور؛ عيب.
غروب ذلك النهار انتقلت عربية إلى منزل ذلك الرجل الذي هو عَدَلها، صلاح الذي صار زوجها، أو «بعلها» كما قيل قبلاً. بدا لها من الأول رجلاً ضخماً فظّاً، وصاحب شارب أسود غليظ أخافها، والآن صار زوجها. هو ليس مثل خالها فؤاد الذي تحبه، كما تخيلت وتمنت في قلبها، وقالته عندما نزلت لتلعب مع بنات الحارة. فزعت من الشعر الأسود الكثيف والطويل الذي يغطّي صدره ويملأ ذراعيه وفخذيه وساقيه وكل شيء، وكرهت رائحة الكولونيا التي يضعها الرجال بعد الحلاقة تلك الأيام، والتي مسح بها صلاح وجهه؛ كادت تتقيأ. ناداها بصوت أجشّ:
- هيّا يا بنت الناس أقبلي، تعالي. أنتِ امرأتي، وصرتِ حلالي. لا تخجلي، المرأة لا تستحي من رجلها. لا تخافي.
لكنها خافت منه كثيراً، واستحيت لما نزع ثيابها، وعَرِقت. لم تعرف السبب، مع أن الهواء كان بارداً، وأحسّت بالروع. كانت تظن أن الزوجة تحبل وتلد أولاداً صغاراً لطيفين وحلوين بمجرد أن يقبلها زوجها بشفتيها، كما شاهدوا في أفلام السينما، أما كيف يصير الأمر حقيقة، فكان شيئاً يصعب عليها حلّه وإدراكه، وأمراً معيباً لمجرد التفكير به. لم يذهب فكرها أبعد من هذا، ولم تعرف شيئاً. خافت تلك الليلة من ثقل الرجل، ومن الضغط الكبير والهائل على جسمها الطري الصغير من بطنه الكبير، وكاد يخنقها، وصرخت من ألم الثقب الفظيع الشبيه باحتكاك عود خشب بطبلة الأذن. خافت من الدم الذي سال، فصرخت وبكت.
■ في اليوم الثاني، وبمجرد خروج صلاح باكراً لشغل الملحمة، هربت إلى بيت أهلها. قالت لهم إنها لم تعد تريد أن تتزوج، وتخاف من صلاح، وتريد أن تبقى بالبيت لتلعب مع عصام، وبكت.
- لا تبعثوني إلى صلاح، الله يخليكم. خبّوني بالخزانة. وإن سأل عني قولوا لم نرها؛ خرجت للحارة وما رجعت. أو حطّوني وراء برميل الأرزّ على التتخيتة، أو كيس الطحين، الله يوفقكم.
حضنتها جدّتها لأمّها وقالت لها:
- يا روح ستّك، كلنا هكذا. أنا مثلك تزوجت صغيرة، وخفت بالأول من زوجي وفزعت من زقرته وعبسته، وتعودت عليه. هذا حظنا ونصيبنا، غداً تتعودين عليه، وترين الزواج جميلاً، وتحبينه. إن شاء الله، تقبرين ستّك.
- ولكن هل قال لك زوجكِ يا ستّي «هيّا يا بنت الناس أقبلي، تعالي أنتِ امرأتي، وصرتِ حلالي؟» هل قرصكِ زوجكِ بفخذكِ قرصة موجعة مؤلمة حليت فيها روحكِ؟ وكشفت عن فخذها البيضاء الطرية، وأرتها محل القرصة الأزرق المتورم. وهل كان شاربه غليظاً أخافكِ؟ وقال لكِ «سوف آكلكِ نيّئة بلا ملح، بمجرد أن تسمني؟» وهو جزّار عنده سكين، ويذبح به الخرفان، ويقصّ اللحمة. أرجوكِ يا ستّي لا تبعثوني إلى صلاح. خذيني لعندك. لا تتركيني له. الله يخليك... و... و... وفعل معي شيئاً عيباً ووَسِخاً، أستحي أن أقوله.
- وماذا كنتِ تظنين أن يفعل؟ كل الرجال هكذا، يفعلون ذلك وأكثر. لكن من هو زوجي؟ أليس جدّكِ؟ لقد أحبني كثيراً وأحببته، ورزقنا أولاداً كثيرين، وأمكِ واحدة منهم. الله يرحمه، ليته عاش لليوم. كل شيء بحسب العادة. نعم، قال لي «سآكلكِ نيّئة بلا ملح»، ولم يأكلني، ها أنا ذا أكلمك. يقولون بالمثل يا ستّي «الغول أكل كل الدنيا، إلا مرتو» فهذا مزاح واسمه غزل، ومن الغرام. أنا تهنّيت مع جدّك. ستعتادين عليه وتحبينه. لا تخافي، تعالي لقلب ستّك يا ستّي. ستبقين عندي، ولن أعطيكِ لصلاح ولا لغيره. لتناولني إحداكن طاسة «الرعبة» (**)، البنت خائفة ترتجف، قلبها يكاد يقف. اسم الله عليك...
وبعد أيام، أُعيدت لبيت بعلها. ذهبت العائلة إلى هناك، وذهب معها خالها فؤاد لبيت صلاح، أما العم عصام فكان يلعب بالطابة مع صبيان الحارة. تكلم فؤاد مع صلاح، ليرأف بها ويرفق، حتى تعتاد عليه وعلى وضعها الجديد، ولا يقول لها «سوف آكلك نيّئة، بلا ملح»، ولا يمسح ذقنه بكولونيا بعد الحلاقة، ولا يقرصها. هي حلوة وصغيرة وستسمع كلامه وتطيعه وتحبه، ولن تهرب ثانيةً.
(*) فصل من رواية بالعنوان نفسه، صدرت حديثاً عن «الدار العربيَّة للعلوم ناشرون» في بيروت، تتناول موضوع الزواج المبكر في المجتمعات العربية التقليدية وتتتبع آثاره المستقبلية على حيوات الفتيات القاصرات والأسرة والمجتمع بشكل عام. وهي المؤلَّف السابع للكاتب اللبناني صخر عرب بعد: «الأمل والمطر»، «نسيم الشمال»، «حكايات منسية من المدينة»، و«أوراق كاتب عدل»، «ضربة شمس»، و«خاتم العقيق».
(**) كأس من نحاس مطلسمة بآيات قرآنية وأسماء الله الحسنى، يسقون بها ماءً للشخص المرعوب ليطمئن ويذهب عنه الروع.