كأنه ابن المسافات والطرق الموحلة. ذلك أن محمد عُضيمة (1954) لم يستقر في مكان. وإذا بقريته «رويسة الجبل» في الساحل السوري تنأى بعيداً كذكرى ضبابية، إثر ترحاله الطويل، لتقذف به الأقدار أخيراً إلى الأرخبيل الياباني. هكذا مزج صاحب «لا لن أعود إلى البيت» بين أبجدية أوغاريت وتلك الأحرف الغرائبيّة للغة اليابانية. ما يسميه عبد القادر الجموسي «المغامرة اليابانية» في كتابه «الذهاب نحو الأقصى: محمد عُضيمة، التجربة والمعنى» (دار التكوين) يتجاوز الحوار العابر نحو ما هو أعمق في فحص شيفرات الشاعر السوري الذي صار يابانياً حتى في سحنته. ثلاثة عقود في تدريس لغة الضاد من جهة، وتعلّم اليابانية من جهة أخرى، وضعته في مهبّ مغامرة تشبه مغامرات الرحّالة العرب القدامى، بفارق أنه انخرط بالثقافة اليابانية، وعلى نحو أدقّ بثقافة شعر الهايكو، وتصديره إلى خارج حدوده بقصد تعميمه عربياً، واستثمار معنى الكثافة والتقطير بدلاً من المطولات الشعرية، في مختبر جديد أطاح النص الأصلي لشعراء عرب مثل أدونيس وسعدي يوسف، وشعراء آخرين، وذلك ببتر الأعضاء الفائضة للبنية الإيقاعية بما ينتهي إلى فراشة بجناحين ملوّنين فقط.

في الحوار الذي استغرق ثلاث سنوات، يضيء عبد القادر الجموسي جوانب معتمة من حياة صاحب «شارع الألبسة الجاهزة» ونشأته الأولى في ريف حزين ومهمل، لنكتشف بأن «الطريق إلى البيت أجمل من البيت»، وبأن المشهديات العابرة هي بؤرة الشعرية لديه. الشعرية التي سترفدها جماليات الهايكو تدريجاً، بعد تعثّر طويل بمتطلبات الشعر الإيقاعي، والغرق في جماليات التصوّف أثناء الخدمة العسكرية في حلب، وصولاً إلى تعرّفه على أدونيس في مقهى «الروضة» الدمشقي باقتحامه طاولته من دون موعد: «كان هذا اللقاء انعطافاً أساسياً في حياتي».
من دمشق إلى باريس إلى وهران، وصولاً إلى طوكيو، بدت الحياة بنكهة أخرى، كمحصلة للتفكير بلسانين، والافتتان باللغة الفرنسية، والاشتغال بترجمة الشعر العربي إلى لغة موليير مثل «النفّري»، و«معلّقة الشنفرى»، و«نزار قباني»، و«كمال خير بك»، و«أغاني مهيار الدمشقي» لأدونيس، بالاشتراك مع آن مينكوفسكي التي أنكرت جهوده وإغفال اسمه على الغلاف مكتفيةً بشكر عابر. في حقبة مبكرة من الارتطام بثقافة الآخر، بدت مفردة الحداثة العربية تشكّل بالنسبة إلى محمد عضيمة عذاباً داخلياً، نظراً إلى المسافة الفاصلة بين النظرية والممارسة، فأنت كما يقول «محاط بقلاع من التخلّف وانفصام الشخصية»، و«مساكين أدباء الحداثة... بناية واحدة من عدة طبقات تتسع لهم ولمريديهم/ لجمهورهم من المحيط إلى الخليج». ولكن كيف حدثت نقطة التحوّل في الذهاب إلى اليابان؟ هنا يربط محمد عضيمة ما بين ذلك اللقاء العابر في مقهى «الروضة»، وعلاقته اللاحقة بأدونيس في إقامته الباريسية، وكيف رشّحه للعمل في جامعة طوكيو بديلاً عنه بسبب مشاغله. كانت موافقة نوبواكي نوتاهارا رئيس قسم اللغة العربية في جامعة طوكيو مفاجأةً حقيقيةً وفسحة بهجة وقلق في آنٍ واحد. هناك سيكتشف الشخصية اليابانية عن كثب، وقسوة العيش في تلك البلاد لعدم معرفة لغتها وطبائع بشرها (يرمم هذه الفترة بكتابة سيرته في طوكيو: «غابة المرايا اليابانية»). سيتعرّف لاحقاً إلى بعض الشعراء اليابانيين، ويلتقط إيقاع الحياة هناك، ثم يعمل على ترجمة نصوص بعضهم إلى العربية كأول جسر بين الثقافتين: «أحسست أنني مسكون بعشرات الأصوات المخنوقة: صوت ذلك الذئب البعيد، ذئب الغربة، وذئب الخمور، ذئب التسكع في الشوارع والحانات والمواخير» يقول. سوف يترجم أولاً، كتاب اليابانيين المقدّس «كوجيكي» بوصفه مفتاحاً أساسياً لقراءة وفهم الواقع الياباني، وكان احتكاكه بالشعراء اليابانيين فرصةً ثمينة لمعرفة جوهر هذا الشعر الذي يتمثل في غياب الصورة المجازية، وغياب البعد التجريدي عنه، واللامرئيات. «الياباني شخص حسّي، لا يصدّق أو يقنع أو يؤمن إلا بما تقدّمه له الحواس، فأن تكون اليابان في قمة الحداثة، فهذا لا يتناقض في شيء مع التقديس البدائي للشمس أو لمظاهر الطبيعة» يقول.
يضيء عبد القادر الجموسي جوانب معتمة من حياة صاحب «شارع الألبسة الجاهزة»


هكذا وجد في الشعر عتبةً لمعرفة هوية بلاد الشمس المشرقة، وذلك المزيج بين ما هو قديم وما هو حديث وصولاً إلى ذروة الروح الشعرية اليابانية التي تشبه تطعيم أغصان الأشجار، وتالياً «تُختصر القيم الجمالية لهذا الشعر بالبساطة والإيجاز والاقتصاد اللغوي، واستنفار حواس اللمس والتذوّق والشم أكثر من حاستي النظر والسمع». هذه الخصوصية جعلت الفن بمختلف أصنافه، متنفساً روحياً جمعياً، يجد اليابانيون فيه حلولاً لأرواحهم التائهة. عدا «التاناكا»، يقتحم «الهايكو» بتمثلاته الإيقاعية مفاصل الحياة اليومية، وطراز العيش الراهن، فهو «يوحي أكثر مما يعبّر»، وبمعنى آخر، هو «فن التقاط ارتعاشات الإحساس قبل أن تتلاشى».
بمثل هذه الخبرة الاستثنائية، تمكّن صاحب «يد مليئة بالأصابع» من تصدير الشعر الياباني إلى اللغة العربية بأكثر من عنوان: «كمشة من رمال: شعر تاكو بوكو»، و«كتاب الهايكو الياباني: ألف هايكو وهايكو»، و«بريد الهايكو الياباني». وإذا بنا أمام أنطولوجيا غنية، عملت على سدّ ثغرة واسعة في الثقافة العربية، لكنها في الوقت نفسه أغرت بعض الهواة في قطف ثمار الهايكو من دون معرفة طعمها الأصلي، بنصوص هزيلة وجوفاء وكارثية.
نطوي صفحات هذا الكتاب، ونحن نستعيد صورة ذلك الريف الخام بدروبه الموحلة، وصورة طوكيو المضادة، وبينهما صورة هذا الرحّالة العالق بينهما منذ ثلاثين عاماً، وهو يهتف «مثل كتابٍ، أنام على الرّف/ أو تحت مخدّة/ لا أريد أن يقرأني غير المطر».