لا يبدو أنّ «القاهرة» يصلح ليكون عنوان مجموعة شعرية، وأيضاً لا تبدو القاهرة مدينة تصلح لتكوين علاقة معها. صباح القاهرة هو تحت رحمة موظفين أصحاب وجوه عابسة، ومساؤها يسيطر عليه الأمن. تُذكر القاهرة في الأدب المصري كمدينة بلا مشاعر، عكس الإسكندرية مثلاً التي تأثّر بها أكثر من شاعر، وعكس الريف أيضاً. لعلّ ذلك يعود إلى عمارتها، وندرة المناظر الطبيعية فيها وتجريفها من الخضرة، أو إلى مركزيتها كعاصمة لدولة بهذه المساحة. أصبحت القاهرة مدينة اللقاءات السريعة. لقاءات لن تحتفظ بها الذاكرة. مدينة غابت معالمها تحت مسمّى «التطوير». لذلك تحديداً، يصعب أن يصنع شاعر/ شاعرة علاقة حقيقية معها، علاقة تسمح بولادة شعر حقيقي يمسّ القلب ويؤلمه. لكن في ديوان «القاهرة» («سلسلة الإبداع الشعري» التابعة لـ «الهيئة العامة للكتاب» في مصر ـــ 2022)، تحيلنا هدى عمران إلى كيفية عيش الفرد في مدينة كالقاهرة، وكيفية تعامله مع خساراته الذاتية. تصبح المدينة مرآةً تعكس قسوة حياة الفرد فيها: كيف يحب، كيف يحزن، وكيف تجبره هذه المدينة على عدم التقاط نفسه ليستوعب ذاته، فأيّ توقف قد يزيد هذه الخسارة ويحطم هذا الفرد. في الديوان، تنعكس أيضاً علاقة الآباء بأبنائهم، وعلاقة الشاعرة بالأمومة، إذ تصور عمران أثر القاهرة على الحب والأمومة والأبوّة.


في قصيدة بعنوان «غرباء»، تكتب عمران: «نحن لا نملك رفاهية أولاد البحر». تفرض القاهرة على أبنائها غربةً قاسية، فهم يفهمون قواعد اللعبة جيداً. إذا توقفت ستموت، وهذا أيضاً يجعل وجوههم عابسة دائماً. في ديوانها، تقول الشاعر المصرية: «هذه عظامي أيها العالم ولا أملك شيئاً آخر/ وعظامي زرقاء من الألم/ رغم أنّي أحب الحياة». أبناء القاهرة يقدمون عظامهم للعالم، لأن القاهرة لا ترحمهم وهم يفهمون قواعد اللعبة جيداً. التوقف معناه الموت، عكس المنتمين إلى وجهين قبلي وبحري، حيث هناك مساحة للمرء لصنع علاقة مع تلك المدن ومع الآخرين. مساحة تفرضها الطبيعة في تلك المدن، وفرق عدد ساعات العمل، وحتى المسافة التي يقضيها المرء في المواصلات في القاهرة تصبح ضعفَ أي مدينة أخرى.
كل هذه العوامل تؤثر على علاقة المرء في مدينة كالقاهرة بمن حوله، وبدورها تؤثر على مشاعر الحب، الوحدة، وعلاقات الآباء بأبنائهم. في فيلم إيريك رومر «الحبّ بعد الظهر» (1972)، يضطرب بطل إيريك رومر في باريس. سرعة المدينة أصبحت تؤثر على علاقته بكل شيء، وتحديداً علاقته بزوجته. المدينة تطالبه بالركض دائماً، ولا تجعله يستوعب الجمال والحب، أي أهم ما يجعل الإنسان قادراً على التعايش مع الحياة.
وفي ديوان «القاهرة»، هناك ارتكاز على صعوبة الحب في هذه المدينة نظراً إلى سرعة الحياة. في قصيدة بعنوان «الحب»، تكتب عمران: «إني أشتهيك إذ أشتهي الجمال وهذه أنا/ وغير ذلك، تفاهة الإنسان/ أعطني جسدك كي أحبك به، أنا وحدي في القاهرة والأشباح في كل مكان». الأشباح في القاهرة تفرض على الأشخاص العجلة في التعامل مع المشاعر كلها، الحب، الحزن، التجاوز، وحتى الأمومة، والشعر في هذا الديوان صنيعة القسوة، قسوة المدينة، وقسوة الحب والوحدة فيها.
العيش في القاهرة يشبه مباراة يتعلّم فيها الفرد خسارته قبل اللعب، أي أنه لا يملك أي فرصة سوى الركض في هذه المباراة. يصبح الركض في القاهرة فعلياً وسيلة للمعرفة كما تكتب هدى عمران، لكنّ النصوص في هذا الديوان تحيل القارئ إلى ما هو أبعد من المعرفة، ومن قراءة شعر جيد، أي أن الشعر لا يصبح هنا وسيلةً للاستمتاع، بل يلعب دوراً آخر في التفكير في جدوى الحياة في تلك المدينة، وطريقة التعايش مع كارثة العيش فيها.
الشعر في هذا الديوان صنيعة القسوة


في كتابه «النحت في الزمن» (ترجمة أمين صالح) يقول تاركوفسكي (1932-1986): «تلك الصورة التي تهز كينونتنا حتى الأعماق، لا يمكن تأويلها من ناحية واحدة فقط. إن تداعياتها تمتد بعيداً نحو مشاعرنا الأعمق، الأكثر إيغالاً، وتذكّرنا ببعض الذكريات الغامضة والتجارب المغمورة الخاصة بنا». في ديوان «القاهرة» يصبح الشعر هو الصورة التي تحيل المرء إلى تلك الحالة، يصبح الشعر هنا هو الفائز في مباراة مع تلك المدينة التي تمنع عن أبنائها الشعور بالحياة نفسها. في قصيدة «حكمة الجوعى»، تقول عمران: «أحاول شرح فكرتي/ لكنّ الدخان الذي يخرج من أفواهنا لفم النهار يغطي القاهرة في لمحةٍ/ ينتشر البوليس في كل مكان/ الخوف يتحول إلى مدينة/ وكلاب الدولة النائمة تحت الكباري وبين الشقوق». عبر هذا الديوان، يصبح الشعر هو صوت الحكمة، هو وسيلة المعرفة والفهم، أي أن الكتابة هنا تصبح سلاحاً في مواجهة تلك المشاعر. كأنّ هذا الديوان تأكيد بأن كتابة الشعر تأتي من المشي في دروب موحشة، يعلم جيداً السائر أنّها ستخرب روحه، والمرآة التي تكشف تلك الحقيقة هي القصائد وحدها.