«نيسان أقسى الشهور، يُخرجالليلك من الأرض الموات، يمزج
الذكرى بالرغبة، يحرك
خامل الجذور بغيث الربيع» (ترجمة عبدالواحد لؤلؤة)
هكذا يبدأ مقطع «دفن الموتى»، مفتتح قصيدة تي. سي إليوت «الأرض اليباب»، التي يعدّها النقّاد الأنغلوساكسون بداية الحداثة الشعريّة، والنصّ الأكثر ثورية وتأثيراً في كل شعر السنوات المئة الماضية، وشهادة روح حساسة على الانهيار الوشيك للحضارة الغربيّة لحظة انطفاء الحرب العالميّة الأولى.
إليوت (1888 – 1965) المصرفي الأميركي، لم يكن أديباً مشهوراً عندما انتقل إلى لندن عام 1914، ودفع في عام 1922 بقصيدته ذات الأجزاء الخمسة للنشر من دون أن تسمع الدوائر الأدبيّة باسمه. عمل معقّد، مُتخم بالمحاكاة الساخرة، وخارج كل نسق مألوف في حينه، ما لبث أن ذاع صيته، وقاد لاحقاً بصاحبه إلى جائزة «نوبل» (1948).

الكاتب في لندن عام 1958 (تصوير لاري بوروز)

يحتفل ماثيو هوليس، الأديب والشاعر البريطانيّ، بمئوية القصيدة في كتابه «الأرض اليباب: سيرة قصيدة» (2022 ـ فايبر)، مقدّماً لجمهور القرّاء في القرن الحادي والعشرين بعض أسرار الألق الدائم لتحفة إليوت، واضعاً إياهم في المناخات العامّة والشخصيّة التي أنتجها، والحياة المستقلّة التي اكتسبتها بعيداً عن صاحبها، متوّجة كدرّة لشعر الحداثة، لا الأنغلوساكسونيّ وحده، بل العالميّ كذلك، إذ تستند في بنيتها إلى مصادر فلسفية وثقافية وشعرية وأنثروبولوجية عابرة للتراث الإنساني كله، وتتضمن مقابلات نصيّة بأساطير قديمة، يونانية ورومانية وشرقية، وتحفل بمفردات من لغات مهجورة كالإغريقية واللاتينية وأخرى حيّة كالإيطالية والألمانية والفرنسية. وقد كان لها سطوة على شعراء الحداثة العرب، حتى إنّ هنالك ثماني ترجمات عربيّة لها على الأقل بأقلام أسماء لامعة في عالم الشعر والنقد.
ينطلق هوليس من لحظة هدنة عام 1918 على الجبهة الغربية في أوروبا. القارة حينها كانت مسكونة بأشباح ملايين الجنود والمدنيين الذين قضوا عبثاً، وحطام النفوس والعقول والأجساد عند من نجا، والمناظر الطبيعية الكئيبة والمدن الشاحبة من شدّة الخراب والفوضى. لم تكد المدافع تصمت في أرجائها حتى اجتاحتها الإنفلونزا الإسبانيّة التي أبادت الملايين، وزادت بؤس حياة الناجين. «دفن الموتى»، الجزء الافتتاحي من القصيدة، كان التقاطاً جدّ مرهف لمزاج تلك المأساة الهائلة.
لم يكن إليوت في قلب الحرب أو خارجها بالكامل. عاش في لندن طوال فترة الحرب، وحاول الانضمام إلى الجيش الأميركي قبل انتهاء الأعمال القتاليّة على البرّ الأوروبي، لكنه انتهى بدلاً من ذلك إلى إهدار وقته وموهبته في وظيفة مرهقة لدى «بنك لويدز» الشهير، مثله في ذلك مثل آلاف الشبان الذين عادوا من الجبهات بصدمتهم لينخرطوا في خدمة الرأسماليّة ذاتها التي أرسلتهم إلى الحرب. ولذلك، قرأ معاصرو إليوت «الأرض اليباب» بوصفها رثاءً حزيناً للحضارة الغربيّة، وسقوطاً مدويّاً لأوهام جيل غربي كامل عاش تلك المرحلة المعجونة بالموت والخوف والألم وحدّق طويلاً في مرآة العبث والعجز واللاجدوى.
إليوت نفسه رفض إضفاء تلك المعاني على أرضه اليباب. أصرّ دوماً على أنّها لم تكن سوى «بوح شخصيّ وجأر بالشكوى لا قيمة له في مواجهة عبث الحياة». يعلمنا هوليس بأن شهادات متقاطعة ووثائق ـــ بما فيها رسائل كشف عنها فقط عام 2020 كتبها إليوت إلى إميلي هيل التي أحبّها بعد انفصاله عن زوجته ــــ تجعلنا نجزم الآن بأن موهبته الشعريّة وإن ولدت على خلفية الكارثة الكونيّة، إلا أنّها تفجّرت بسبب علاقاته المضطربة بالنساء، وأنّ القصيدة الخالدة تحديداً كانت هبة كابوس معتم لزواج فاشل جمع بين رجل مهزوز متردد بامرأة لعوب خانته حتى مع أقرب أصدقائه (عزرا باوند). كتب إليوت قصيدته في أوج انهيار علاقته مع فيفيان هايغ-وود الصبيّة البريطانيّة الأنيقة والمفعمة بالحيوية التي أحبها وتزوّجها سريعاً رغم معارضة أهله. هم اعتبروا قراره بترك مهنة أكاديمية واعدة في «جامعة هارفارد» للعيش في لندن مع فيفيان تهوّراً محضاً. وهو العاشق المخدوع أحسّ بأنهم تخلّوا عنه من دون ذنب سوى الحبّ. يسجّل هوليس أنّ ثمّة «شعوراً حاداً بالتخلي والمرارة» يخفق بقوة وراء أبيات القصيدة، حيث العزلة والوحدة والخيانة ثيمات متكررة. لكن الجليّ أن إليوت عديم الخبرة بالنساء والشخصيّة المرهفة القلقة، عجز عن إرضاء الحاجات العاطفيّة لفيفيان، ولم يحسن قراءة مشكلاتها النفسيّة، فتكررت سبحة مغامراتها لتصل علاقتهما إلى مأزق تام. كان الشعر المنسوج من هذا التشابك المستعصي هو الرابط الوحيد الذي بقي يجمعهما، ولذلك كانت فيفيان أول من اطّلع على مسوّدات «الأرض اليباب».
بعد انفصاله عن فيفيان، شفي إليوت تدريجاً من مزاج اليأس والكآبة سواء في حياته الاجتماعية، أو في كتاباته، لكنّه وفق هوليس لم ينجز بعد «الأرض اليباب» شيئاً مهماً. لقد دمّرت تلك العلاقة نفسيّته، وتحدت إحساسه بالوجود، لكنها، للمفارقة، منحته ومنحت العالم إحدى أعظم القصائد في التاريخ.