ثمَّةَ كُتَّاب ومفكِّرون يستطيعون مقاربةَ الظَّواهر الإنسانيَّة وسبرَ أغوار النَّفس البشريَّة في كونيَّتهما من دون أن يغادروا بَلدتهم الصغيرة، من دون أن يتنقَّلوا في الزَّمان والمكان. فإذا كان الاسم الأشهر فلسفيّاً في هذا الصدد، هو إيمانويل كانط، الذي لم يغادر قَطُّ بلدته كونيغسبُرغ، واستطاع — رغم ذلك — صوغ نظريَّات فكريَّة حول كونيَّة العقل والتَّاريخ والنَّواميس؛ فيكاد جزوالدو بوفالينو (1921-1996) يكونُ المعادِل الموضوعي له، على المستوى الإبداعي، وبالأخصِّ المستوى الرِّوائيّ، إذ لم يغادر بلدتَه كُومِيسُّو، جنوبَ صقليَّة ــــ حيثُ عمل مدرّساً إلى أن وافته المنية ـــــ إلَّا في ما ندُر، ولضرورات قصوى.بقي جزوالدو بوفالينو مغموراً، في السَّاحة الأدبيَّة الإيطاليَّة والعالميَّة، إلى أن نشرَ، في السِّتِّين من عمره، روايته الأولى «ناشِر الطَّاعون» (1981)، الَّتي أنهى تحريرَها في عام 1950، لتبقى مطمورةً في الأدراج، إلى أن تُوِّجت بجائزة Campiello، التي فتحت له آفاق الانتشار عالمياً، كاسم بارز ضمن ثلَّة من أهمِّ روَّاد التراث السَّردي والروائي الصِّقلِّيِّ (الروائي والمسرحي لْوِيجِي پِّيرانديللو، جوزيپِّه تومازي دي لامبيدوزا صاحب تحفة «الفهد»، إليو ڨيتوريني وليوناردو شَاشّا). صار بوسع مؤرِّخي الأدب الحديث عن مدرسة صقليَّة تمتدُّ من الفولكلور الحِكائيِّ الشفوي والمكتوب باللغة العامية للجزيرة في القرن السادس عشر النَّهضويِّ إلى آخر العنقود مع الرواية الحديثة والمعاصرة، الَّذي يمثله بوفالينو عن جدارة، ولو متأخِّرةً، ما أتاح له أن يكون الوريثَ الأهمَّ لكل التراث والفولكلور السَّردي للجزيرة الإيطاليَّة الرَّابضة على هامش وقَدَم الامتداد القارِّيّ لبلد الدولتشي ڨيتّا.


لم يكن هذا التأخُّر في الذُّيوع السريع وتكريس اسم بوفالينو في المشهد الأدبي الإيطالي والعالمي منذ عمله الأوَّل، إلا لنضجه الَّذي تبلور بهدوء وصمت في العقود السَّابقة لخروجه إلى ساحة النشر، من خلال مواكبته النقديَّة والتَّرجمية، من الفرنسيَّة واللَّاتينيَّة إلى الإيطاليَّة، للمسرحي الرُّوماني القديم Térence، وفيكتور أوغو، ومدام دو ستايْل، وجيرودو، وبالخصوص بودلير، الذي يعتبره بوفالينو إحدى أهمِّ مرجعيَّاته الأدبيَّة. سيتمُّ، في ما بعد، تجميع مقالاته ودراساته هذه، التّي تتشكل غالباً من مقدِّمات لترجماته، في كتابه النقدي وغير السَّردي الأوحد: «أصابِعُ شمعٍ منسابَة» (1985). يمكننا أن نستنتج من لائحة اهتمامات وقراءات بوفالينو هذه أنَّها، في جُلِّها، تنتمي إلى الحقبتين القديمة والكلاسيكيَّة من الآداب الأوروبية. فرغم تشبُّع بوفالينو، أسلوبيّاً، بمعالم الحداثة في كتابته الروائيَّة، إلا أنه يبقى مضموناً ابناً للتقاليد الأدبية الأوروبيَّة العريقة التي تبلورت بين عصر النَّهضة ومعالم الحداثة الأولى في فرنسا القرن التاسع عشر، من دون إغفال التراث المحلي الصقلي المُراوح بين فولكلور موسيقي وشعري متشبِّع بلهجات وألسن الجزيرة، في تجاوز مع أشكال سردية قديمة وحديثة تراوح بين الحكايات الشفوية القديمة ورياح التجريب الروائي لدى جيمس جويس الَّتي هبَّت على صقلية خلال فترات استجمام الروائي الإيرلندي في المدن الإيطاليَّة في الثلث الأول من القرن الـعشرين.
عن تأثيرِ بودلير عليه، يحكي بوفالينو طُرفةً عن القوة المؤثرة لشعره في ميدان الكتابة: إذ غامر في بدايات شبابه بإعادة نقله إلى الفرنسية من خلال قراءاته لمقتطفات من ترجمات «أزهار الشر» الإيطاليَّة في الكتب المدرسيَّة التي كانت مقرَّرة في المدارس الصقلِّيَّة، حيث دَرَسَ صغيراً ودرَّسها في ما بعدُ أستاذاً.
يُضاف إلى كلِّ هذا المخزون الأدبي الفاعِل في كامل نتاج بوفالينو السردي والنقدي، مؤثرات من الثقافة البصرية والسمعية يتمثَّل في السينما الفرنسية لِما بينَ الحربين العالميَّتين الأولى والثانيَّة، من خلال أفلام فيليب كلير، وجوليان دوفيفييه، وجان رونوار.
لن يغرف بوفالينو من مخزون مطالعاته ومن التَّاريخ الإيطالي فحسب، إنَّما سيستلهم أيضاً تجربته في الحياة من خلال حدثين تركا أثراً كبيراً في مجرى مساره: تجنيده الإجباري في عام 1942 وأَسْرُه من قبل الألمان في عام 1943، ليتوفَّق بعد فترة وجيزة من الاعتقال في الهروب والفكاك منهم، لكنَّ هاتين السَّنتين كانتا أكثر سلبيَّة بِأن أوقفتا مرحليّاً مساره الدِّراسيَّ الجامعيَّ، ليزداد وضعه تأزماً بحلول سنة 1944، إذ شهدت إصابته بالسُّل الرئوي، ما استوجبَ إدخاله مستشفى مدينة سْكَانْدْيَانُو، حيثُ رُبَّ ضارَّة نافعة: كان الطبيب الرئيس للمستشفى يتوفر في مكتبه على مكتبة كبيرة وغنيَّة، وضعها رهنَ إشارةِ مريضه، وأسهمت بشكل كبير في تكوينه الذَّاتي وتمتين وتوسيع اطّلاعه على الأدبين الإيطاليِّ والعالمي. لكنّ استكمالَ تشافيه النِّهائي تطلَّب منه أيضاً ولوج مستشفى باليرمو، ليتعافى نهائيّاً في عام 1946. بعد أن تحسَّن وضعه الصِّحيُّ، عاد لاستكمال دراسته الجامعيَّة، لكي لا يغادِرَ أبداً بلدتَه كوسيمو، حيثُ اشتغل معلِّم مدرسة، فأستاذاً جامعيّاً إلى أن توفي عام 1996.
ربما كانت سنوات أربعينيات القرن العشرين هذه، بأحداثها الأليمة وساعات العُزلة للمطالعة، ما يمكن اعتباره وتسميته في حياة أي كاتب: سنوات التعلُّم، رواية التعلُّم في الحياة الواقعيَّة.
لحظاتُ العزلة هذه، والغوص في الذَّات والاشتغال عليها، مع تسويد الصفحاتِ لليالٍ طِوال، هي ما أسهم في تفجير وبلورة ما أسماه النقد والصحافة الثقافية الإيطالية El caso Bufalino: حالةُ بوفالينو، أو حالُ بوفالينو (بالمعنى الصوفي للكلمة)، الذي بقي يَنْصَهِرُ ويَنْصَقِلُ منذ عام 1950، سنة الفراغ من تحرير الرواية الأولى، إلى أن انبثق دفعة واحدة، مع نشرها في عام 1981، كفاتحة لنتاج أدبيٍّ سيضعه اسماً أساسياً في خريطة النتاج السردي الأدبي الإيطالي للنصف الثاني من القرن العشرين. للإشارة هنا، فإنّ «ناشِر الطَّاعون» (1981) سبكٌ وتشبيك بارع لأحداث الأسرِ والمرض والحوم بين المشافي، تضاف إليها تأثيرات كبيرة وتناصَّاتٌ مع تحفة توماس مان «الجبل السِّحريُّ» (1924) ومجموع حكايات «الديكاميرون» لجيوفاني بوكاشيو، في مدَّة طويلة امتدَّت على عِقد من الزَّمن، تطلَّبه الفراغ نهائياً من كتابتها، لِتُرْمى في ظلمات الأدراج لمدة 31 سنةً، قبل أن ترى نور الشُّهرة الوهَّاج.
ستتوالى الإصدارات السردية لبوفالينو، بين رواية ومجموعة قصصيَّة، مع وبعد عمله الروائيِّ البِكر هذا: «سارق الذِّكريات» (1984)، «جَمال الكون» (1986)، «الرَّجُل الهارِبُ ومُفْتَرَيَاتٌ أُخرى» (1986)، «أرجوسُ الأعمى أو أحلام الذَّاكرة» (1988)، «أكاذيب اللَّيل» (1988) التي انتقلت أخيراً إلى لغة الضاد (راجع الكادر أدناه)، «تَقاويم إغريقيَّة» (1990)، «التباسٌ» (1991)، «توماسُّو والمصوِّر الأعمى» (1996)، إضافة إلى ثلاث مجموعات شعريَّة لم تضف إلى مجده السَّرديِّ شيئاً، وإن كانت تعبيراً أسلوبياً على شعريَّته الحِكائيَّة.
إن قُيِّضَ لنا البحث عن خيط ناظِم لكلِّ مؤلَّفات بوفالينو، سيكون بكل تأكيدٍ الاستناد إلى الذَّاكرتين الفردية والجماعيَّة والاغتراف من المادَّة السردية التي توفرانها. فهو يعتبر الذَّاكرةَ، واقعياً وفنِّياً، الأداةَ الوحيدة والكفيلة بصمود المهزومين ومقاومة الآلة الجهنمية لتاريخ وزمن المنتصِرين، بل هي الزَّمن الحقيقي الوحيد، المنفلِت من أحابيل النَّزعة الفولكلوريَّة المبخِّسة لتراث الشعوب ومنجَزات الأفراد، هي السِّلاح الوحيد في وجه العدميَّتَيْن الفكريَّة والسيَّاسيَّة.
ربَّما كان الألم والذَّاكرة هما ما جذبَ الراحل بسام حجار، في أواخر حياته، إلى ترجمة رائعةِ «أكاذيب اللَّيل»


هذا ما يلخِّصه بوفالينو، جامعاً بين قصته الشخصيَّة وقصة الآخرين، كلّ الآخرين المقصيين والموضوعين على هامش التاريخ، قائلاً: «حياةٌ كباقي الأخريات، مَرَضان أو ثلاثة في كامل جبروتهما وأذاهما، ثلاثة أَنْصاف أصدقاء، مزاج سوداوي مع موجاتٍ من المرح الصَّاخب؛ نزعةٌ مسيحيَّة إلحاديَّة ومرتعِشة، غير قادرة على تمييز إن كان الكونُ خلاصاً أم مرحلةً نهائيَّة من السَّرطان، نعمةً أم نقمةً؛ بُغْضاً مِنَ التاريخ: أرضيَّة من الحفريَّات الإيديولوجيَّة، تجميعٌ جامدٌ للأخطاء، غرامٌ بما يدومُ ويقاوِم — الأماكن، اللَّهجاتُ المتضامِنة، العادات النَّبيلة، قبضاتُ أَيَادٍ — في عمقِ منطقتي بلدتي ومنطقتي النائيَّة المنسيَّة. في الآدابِ، هو حُبٌّ للأكاذيب والموسيقى، شرطَ أن يتجذَّرا في النُّقطة الخرافيَّة والهندسيَّة للألم والذَّاكرة».
ولربَّما كان الألم والذَّاكرة هما ما جذبَ بسام حجار (1955 ــــ 2009)، في أواخر حياته، إلى ترجمة رائعةِ «أكاذيب اللَّيل» (لا نستطيع الجزمَ إن كان العمل الوحيد المترجم لبوفالينو إلى العربيَّة، ولكنه حسب علمنا كذلك)، التي شرع في نَقْلها إلى العربيَّة عن الفرنسيَّة، ربَّما كآخر ما كان يصنع؛ ولمَّا كان المخطوط الذي عُثِرَ عليه بين أوراقه غير مكتملٍ، زُهاءَ ربع الكتاب فحسب، فقد تولَّى الشَّاعر السُّوريُّ أمارجي إكمال ترجمة الرِّواية عن لغتها الأصليَّة، الإيطاليَّة، متحرِّياً ما أمكن التَّوفيق بين الدَّفق الشِّعري للرَّاحل ودفقهِ الشِّعريِّ وبين المعجم اللُّغويِّ للرَّاحل ومعجمه اللُّغويِّ، حتى أصبح هذا الكتاب ثمرةَ تضافر حساسيَّتين شعريَّتين مرهفتَين استطاعتا بحُسن إصغائهما إلى نبض النَّصِّ وإيقاعاته أن تصنعا تحفةً عربيَّةً تضاهي التُّحفة بلغتها الأمِّ.