لا أعرف إذا كان قدري أن أولد في عشائر الغرابنة، أو كان هذا قدر أبي، وجدّي من قبله. كان جدّي أوّل غربانيّ يطلب العلم الدينيّ في النجف، ويعود من هناك مع زوجته العراقيّة. لكنّ العلم الدينيّ لم يرق لأبي فعمل مدرّساً في مدرسة حكوميّة وتزوّج أيضاً من خارج العشيرة. لم تكن أمّي غربانيّة، لكنّها ليست أقلّ افتخاراً بعائلتها من الغربانيّات، أمّا أنا، الذي كان دمي مختلفاً إلى هذا الحدّ، والذي لم يبقَ فيه من الغرابنة إلّا القليل، فقد تربّيت في قرية من الجنوب، حيث درّس أبي واستقرّت أسرتي، منقطعاً هكذا عن الغرابنة، رغم أنّه كان لي بينهم أبناء خال من زواج سابق لأبي وأبناء عمّ اتّصلت بهم في شبابي. أردت أن أتعرّف إليهم، فقد كان آباؤهم يتردّدون علينا من عامٍ إلى عام، وأبي وأمّي يحتفيان بهم، من دون أن يبادلانهم الزيارة. لم أتكلّم مع أبي على ذلك إذ لم أنتبه له إلّا متأخّراً، فلم تكن العائلة قضيّة أيّ منّا، لكن عندما اقترحتُ أن نصعد إلى الغربانيّة، صعدنا جميعاً أمّي وأبي وأختي وأنا، واستقبلت العشيرة، ابن الشيخ وأحفاده بحفاوة، فهم من عرق الشيخ الذي كان في وقته فخر العشيرة التي ليس في تاريخها أهل عِلمٍ قبله. لم يعلّق والدي الذي لم يكن ثرثاراً ولا علنياً، والأرجح أنّ أمور السريرة الملتبسة لم يكن لها كلام عنده، فالكلام عنده جامعٌ وعام.


لذا لا أدري إلى الآن إذا كان يجافي عشيرته ويتجنّبها، فهو لم يعمّر في الغربانيّة، ولم يصعد إليها إلّا عند رغبتي، مفضّلاً أن يقضي عطلاته في قرية أمّي. لم أسمعه يتكلّم على عشيرته، إلّا أنّه ذكر مراراً أباه ولم يذكر غيره، ووصل إليّ أنّ جفاءً كان بين أبيه وأعمامه الذين جاؤوا من عدّة أمّهات. لم أعرف هذا من والدي، الذي كان بالتأكيد يخجل من أن يحمل مشاعر في غير وقتها ومناسبتها، ويخجل بضغينته، وبخاصة إذا كانت تحزّ فيه بدون سبب كافٍ، إذا كانت بنت ثأر عائليّ أو نعرة ما، أيّ نعرة. لم يكن يفهم ضغينته ولا طاقة له على إبرازها. قلت له إنّنا سنذهب هذا الصيف إلى الغربانيّة فلم يقل شيئاً. سار هادئاً إلى السيّارة، وفي الغربانيّة بادر إلى الاتصال بالأقرب إليه مِن أبناء الفخذ الذي يحويه، سعيد الغرباوي. وهكذا فهمت أنّ العشيرة تضمّ أفخاذاً وبطوناً متنافسة، فقد سمعت من الحاج محمد علي عندما زرناه في دكّانه، وكان الرجل الذي يرتدي طاقيّة بنّية صوفية لا تناسب الطقس الصيفي، عاكفاً على دقّ المسامير التي يتناولها من فمه، في النعل المثبت على سندان، أنّ «جبّ مرعي مش من العشيرة، هولي برارنة»، أي أنّهم من خارج العشيرة. قال ذلك بعينين زرقاوين باسمتين، وفمٍ منبسط، ووجه جعلته الذقن، غير المحلوقة من أيّام، أكثر أبويّة. لم يكن صوته، الذي يرخي أواخر الكلمات، أقلّ ألفة. سمعت الكلام نفسه من الأستاذ ناجي، الذي استقبلنا بعباءةٍ سوداء خفيفة. أشار إلى صورة له في شبابه، على رأسه فيها عقال، وقال «إنّها من حرب فلسطين». كانت عيناه الزرقاوان تشعّان في محجريهما كحجرين كريمين، وكان صوته مروّساً كإصبعه التي يطعن بها الفضاء أثناء الكلام. لقب الأستاذ جاءہ من رفقة الإنكليز، حين كان يعمل في فلسطين في بناء خط السكّة، ومن هناك تعلّم كلمات إنكليزية راح يرطن بها بين أهله. لم يكن أستاذاً، كما أنّ الدكتور راشد لم يكن طبيباً، فقد اشتغل في عيادة طبيب أسنان خرج منها وقد تعلّم كيفيّة قلع الأسنان، لكنّه قلع سنّ أبي غير المعطوبة، ليعود فيقلع له السنّ المجاورة. الدكتور كان ظاهر القوّة في جسده المشدود وذراعيه الملفوفتين، تحت نصف الكمّ الذي كان لقميصه، وكان وجهه، وحنكه بخاصة، يتحرّكان باستمرار مع كلامه. الاثنان قالا إنّ «جبّ مرعي» كان حليفاً للعشيرة قبل أن يندمج فيها، لكنّ الشبهة حول أصل جبّ مرعي لم تكن وحدها، فالأرجح أنّ شبهة مثلها تلحق كلّ الأصول، عدا جبّ محمود الفقير، فالكلّ يجمعون على أنّه الأصل. كان جبّ محمود الأكثر عدداً لكنّ أفراده في جملتهم إسكافيّون، وبينهم كثرة من القبضايات الذين يؤجّرون نفوسهم لبكوات المنطقة، فضلاً عن توزيع المخدّرات، ونقلها عبر الحدود والعمل في الاستخبارات، سواء تلك التي للبلد أو لدول في الجوار. صحيح أنّ أحدهم، سليمان، تطلّع إلى أكثر من ذلك، فترشّح لرئاسة البلدية، وربّما كانت عينه على النيابة، لكنّ الزعماء الذين دعموه في معركة الرئاسة وضعوا لطموحه حدّاً، بل جعلوا المنصب نفسه تحت أيديهم. هكذا اكتفى سليمان وصرف نظره عن النيابة، وحين انفلج ولزم فراشه، صار المنصب صفراً، وإن تنازع عليه ابن سليمان راشد، الذي جعل من دكّان أبيه المهجور محلّاً لبيع الأحذية، ورائد الذي عاد إلى البلدة طبيباً. هذه المرّة وضعه أحد الزعيمين على لائحة من لوائحه فصار نائباً، فيما حلّ أحمد محلّ أبيه. ليس للنائب إلّا الاسم، مع ذلك غضب وجهاء العشيرة لأنّ شخصاً، أبوه كان يعمل ساعياً لديهم، يحمل هذا الاسم. إذا كانت النيابة قد هزلت، فإنّ حال الوجاهة ليس أفضل، فالجميع تحت الزعيم وتحت الحزب، والعشيرة نفسها مقسومة بالتراضي بينهما.
لم يكن مضى على وجودنا في القرية سوى يومين، حتّى كان الخبر شاع، وأخذنا نستقبل كلّ عصر عدداً ممّن يأتون للسلام علينا. كان أبي هو المقصود، والزوّار عادةً هم أصحاب البيوت الذين يوازونه عمراً أو يزيدونه. لقد حضر آباء العشيرة للترحيب بالابن الضال العائد. أوّل الوافدين كان الحاج صائب، الذي دُعي هكذا على اسم البيك البيروتي، إذ كان الأخير يوم مولده في زيارة للبلدة. الحاج صائب هو ابن خال أبي، أي أنّ قرابته له تعود إلى الأمّ، فالأخوال أشقّاء الأمهات. كان مع الحاج صائب ولداه، وأحدهما في سنّي تقريباً والثاني يزيدني بسنوات. حينما رنّ الجرس وفتحنا الباب وجدناهم، ومعهم امرأة مبرقعة وصبيّة بالحجاب. عجّلت بإدخال السيّدتين اللتين دلفتا فوراً إلى الغرفة الخلفيّة وتواريتا فيها. دخل الحاج وابناه، وجلس معهما على الكراسي المصفوفة في الحجرة الأولى. عجّل أبي إلى المجيء بعد أن ارتدى طقمه الكحلي وعلى ياقته قشرة الرأس البرشاء. لم يتعانق الحاج ووالدي ولم يطيلا المصافحة، تمتم أبي «أهلاً بالحاج». كان الحاج معقود الحاجبين مقطّب الوجه، لكنّ البارز فيه عيناه الزرقاوان، اللتان تضيفان إلى صرامته ملمحاً من الدهاء. كانت عباءته السوداء الخفيفة تغطّي طقماً رمادياً وربطة عنق مقلّمة. لقد جاء بكل قيافته، وحين رفع صوته مرحّباً بالأستاذ، لمعت عيناه وزاد انزواؤهما. «نوّرت»، قال، فردّ عليه أبي: «أضوت المطارح يا ابن الخال شرّفت». لم تكن هذه لغة أبي…

* فصل من رواية «حائطٌ خامس» للكاتب والشاعر عبّاس بيضون تصدر قريباً عن «نوفل ـــ هاشيت أنطوان»