أخرج لممارسة الركض كلّ يوم تقريباً. أدمنتُ هذه العادة منذ ستة أشهر. كلّ يوم، في نفس التوقيت، أبدأ بإطلاق العنان لقدميَّ. في اليوم الأول أغمي عليّ بعد خمس دقائق وأيقظني أصدقاء يشربون بعضاً من الجعة في ملعب كرة القدم. في الأيام الموالية، تقيّأت مرات عديدة. يصيبني غثيان شديد وأواصل الركض. كان الهدف من هذه العادة أن أستطيع التخلّص من عادة أخرى كنت أدمنتها ولا أريد الحديث عنها الآن. بعد أسابيع، بدأت بالتعوّد على الركض وازدادت المدّة تدريجاً. عندما أخرج من بيتي وأبدأ هذا الإدمان، ينظر إليّ البشر، في هذا الحيّ، كأنني مجنون.قالت لي ذات مرة امرأة: «يا وليدي آش امخرّجك في هالبرد». كادت الكلمات تغادر فمي لأجيبها، إلا أني ألهث. بعض الأصدقاء، أيضاً، يعتقدون أني جننت. أركض، ثم أركض، ثم أركض وأعود لبيتي لأستحم وأنام. أصبحت مهووساً بساعات الركض. عندما يبدأ القلب بضخّ الدّم إلى كامل الجسد بدفق مرتفع، أحسّ بنشوة شديدة. زادت المسافات لتزداد هذه النشوة. برد شديد في أطرافك وأنفك ودمعات صغيرة تتساقط من عينيك سببها الهواء البارد. عندما ركضت 10 كيلومترات في 60 دقيقة، بدأت بالصراخ والفرح كأني الفائز بالألعاب الأولمبية. في حقيقة الأمر، فرحت لأنني نجحت في تحقيق الهدف: دامت النشوة حينها يوماً كامل.


منذ فترة قصيرة أيضاً، أصبحت أتوجّه إلى قاعة الرياضة. كانت البدايات كعاداتها، مملّة وصعبة، إلا أن هذا الجسد يتعوّد على كل شيء. بدأت عضلاتي بالتماسك وصرت أفقد تدريجاً الدهون التي كانت تتراكم مثل الأفكار الغريبة التي تراود ذهني في يوم أحد كئيب. أفقد أيضاً بعض الملابس التي لم تعد تناسبني، تماماً مثلما فقدت بعض الأصدقاء. أفقد عادات وأكتسب عادات أخرى وأتعود عليها كأنها جزء منّي. تسكن فكرة ما في رأسك ولا تخرج منها إلا بعد أن تسكن فكرة أخرى مكانها. أحياء كبيرة في تلك الجمجمة الصغيرة التي تحتاج أن تتغير.
أركض، ثم أركض، ثم أركض والأفكار في رأسي تتوالد بنسق جنوني.
في يوم ما، كانت الشمس أمامي مباشرة وتتوسط الطريق وكنت أركض لساعات دون توقف. كنت أعتقد أني وجدت الطريق نحو الشمس.
كان يوماً جميلاً جداً والسماء الزرقاء تطغى على كل الأحاسيس.
فكرت حينها في طريقة ما للانتحار إلا أنني عدلت عن تلك الفكرة وواصلت الركض.
أركض كي لا أموت.
أخرج لممارسة رياضة الجري يومياً تقريباً. بدأتُ هذا الإدمان قبل سنة ونصف السنة. ساعدني هذا الإدمان على التخلّي عن إدمان آخر ربما سأتحدث عنه في يوم ما. بعد مرور هذا الزمن، تعوّد بعض من في الحيّ على مروري اليوميّ أمامهم. ذات يوم، جهّزت لي نفس المرأة، قارورة مياه معدنية صغيرة وقطعة حلويات. تعوّدت هي أيضاً على شيء ما. يلوِّح لي رجل في العقد السادس من العمر عند مروري أمام المقهى. يجلس وحيداً وفي يده اليمنى تسكن سيجارة تحترق. يلوّح لي بيسراه وألوّح له بابتسامة صغيرة. كانت هذه عادتنا الصغيرة. أصبحت عادة يومية. تعوّد أيضاً كلّ الذكور الذين يجلسون في مقهى آخر على مروري أمامهم. في البدء كانت ملابسي حديثهم. ثم بعد ذلك أصبح تحوّل بعض عضلات جسدي موضوعهم، أما الآن فتتسّمر وجوههم على هواتفهم الذكية. لقد تعوّدوا على مروري.
أواصل الجري ويواصل باقي البشر عاداتهم اليومية: صياح البائع المتجوّل؛ صوت الموسيقى القويّ الذي يصدح من بيت جميل؛ الطفلة الصغيرة التي تطلّ من النافذة؛ جلوس الذكور على الإسفلت (يسمّون ذلك المكان مقهى)؛ مرور النسوة بجانب الإسفلت الذي يتحرّش بهنّ؛ سيارات الأجرة الفارغة؛ صوت الأطفال في كل شوارع الحيّ؛ تنبيه القطار الذي سيمرّ بعد حين؛ قاعات الرياضة التي تتقمّص دور الملاهي الليلية؛ سيارات الشرطة (دون أي وصف).
عادات كثيرة تزداد وتتكاثر دون تفكير. أواصل الجري ويواصل باقي البشر عاداتهم اليومية. في بعض الأحيان، حين يكون الحيّ مزدحماً بالعادات. أركض نحو مقبرة قريبة. أدخل من الباب الرئيسي. أركض هناك دون أي عادات تعترضني. في ذلك المكان تعترضني الذكريات.
أحاول قدر الإمكان في ذلك المكان ألا أتوقف عن الركض. أركض، ثم أركض، ثم أركض إلى أن يدقّ قلبي بنسق شديد. أجلس بعد ذلك بجانب قبر ما. تتصاعد أنفاسي وألهث وقطرات العرق تتساقط على أرض المقبرة. سكون يطغى على هذا المكان.
في هذا المكان أحس أني حيّ أرزق.
كتبتُ في السابق أني أركض كيلا أموت، أما الآن أكتبُ: أركض لأحيا.

* تونس