إنها القصة الاستثنائية لأربع شابات إيطاليات ممّن قدنَ المقاومة ضد الفاشية أثناء الحرب العالمية الثانية، تلك التي ترويها الباحثة البريطانية كارولين مورهيد (1944) في كتابها «منزل في الجبال ــــ نساء مقاومات حررن إيطاليا» (دار الساقي ـــ 2022 ـــ ترجمة هيثم فرحت). آدا، فريدا، سيلفيا، بيانكا، أربع شابات من بيمونتي، قاتلن كما الآلاف من الرجال والنساء لتحرير إيطاليا، وانضممن إلى المقاومة إثر الاحتلال الألماني لبلدهنّ، بحيث صار منزل إحداهنّ مقصداً وملجأً للعديد من النساء المقاومات.

كانت النساء الأربع صديقات، وبحلول آذار (مارس) 1945 كنّ قد تجرّعن مرارة عامين من الاحتلال الألماني، والوحشية الفاشية، والاعتقالات المتكررة، والمعارك المسلّحة التي شملت إيطاليا كلها وصولاً إلى حدودها في جبال الألب العالية مع فرنسا وسويسرا. آدا ذات الشَعر المجعّد أكبر الأربع سنّاً، أرملة أحد أشهر المناهضين للفاشية في التاريخ الإيطالي، بييرو غوبيتي، هي امرأة حيوية وحنونة في الواحد والأربعين، مترجمة ومعلمة تتحلّى بروح الدعابة وتفضّل الصداقة على الجنسية والبلد والأيديولوجيا، ومن مؤسسي حزب العمل اليساري والمفوضة السياسية لـ «محطة رصد ستالينا»، أحد ألوية الثوار في الجبال. أما المحامية بيانكا غيديتي سيرا، البالغة 25 عاماً، فقد كانت عضواً جديداً في الحزب الشيوعي تدير لجان عمل ضد الفاشيين في المصانع رغم اعتراضات والدتها التي كانت ترى في نشاطها الثوري مجلبةً للويل والثبور إلى العائلة. فريدا مالان هي الفتاة الوحيدة التي تتحدر من عائلة بروتستانتية مقاتلة قادمة من الوديان إلى الغرب من تورينو. ونظراً إلى أنها عنيدة ومتمردة، صارت الفتاة الشقراء ذات العينين الزرقاوين التي تمتلك قامة لاعبة جمباز، مقاتلةً ومراسلةً في مقاطعة في الجبال وعضواً في القيادة العسكرية الإقليمية الموحدة. أما سيلفيا بونس البالغة 26 عاماً، فقد كانت طبيبة بجمال ساحر بشعرها الأسود النازل على عنقها، إلى درجة أنّ الناس كانوا يصمتون لدى دخولها غرفة التمريض، وتعمل كمراسلة حربية لمصلحة الألوية الثورية وتسهم في علاج المقاتلين الجرحى. من خلال الحفر في سير النساء الأربع، وقصص اعتقالهنّ، لا سيما فريدا وسيلفيا في السجون المشهورة بالتعذيب والإعدامات العاجلة، تبين لنا مورهيد بالتفصيل عمل ماكينة الفاشية الهائلة في تحويل الأفراد إلى ظلال لا حقوق لها، ولا صوت، ولا مساواة، ولا رأي لها في الحياة وإدارة البلاد، ما استدعى شجاعة استثنائية من النساء الأربع في إيجاد إرادة المقاومة ونكران الذات والخيال، ليصدّرن حركة النساء الإيطاليات اللواتي انتفضن في معمعة الحرب على الفاشية والاحتلال. نكتشف في فصول الكتاب اللاحقة أنه بالنسبة إلى آدا ورفيقاتها، كان الأمر يتعلّق بتحرير الإنسان كما الأرض على حد سواء، بإيجاد مجتمع ديموقراطي جديد أكثر عدلاً تكون فيه النساء بموجب القانون في موقع الشراكة الكاملة في العمل والأسرة. إذ إن عدم حصول الأمر قد يؤدي إلى خسارة ما أطلقت عليه آدا اسم «معركتنا». «يجب علينا نحن النساء، أن نبذل قصارى جهدنا الآن في سبيل إنقاذ وطننا وحياتنا، وقوتنا، ورفض التردّد أيضاً. وستبدي أفعالنا أننا قادرات على بذل التضحيات كلها» كان الشعار المرفوع من قبل مجموعات الدفاع النسائية، وبه تفتتح مورهيد الكتاب بأجزائه الثلاثة منذ سقوط إيطاليا، مروراً بالعام الناري للمقاومة والحرب وصولاً إلى التحرير. تسرد قصة المقاومة الإيطالية في أسلوب أقرب إلى كاميرا تتقصى حياة النساء الأربع على مدى تسعة عشر شهراً، بين أيلول (سبتمبر) 1943 حين استسلمت إيطاليا وانضمّت إلى الحلفاء، ونيسان (أبريل) 1945 لدى تحرير البلد من الألمان. تروي الكثير من التفاصيل المجهولة حول الحرب الأهلية التي غرق فيها الإيطاليون حين كانت حملة الحلفاء تتحرك ببطء شمالاً بعد إنزالاتهم في الجنوب، إذ شهدت الحرب الأهلية وحشيةً مفرطةً أدت إلى مقتل الآلاف، ونادراً ما يجري تذكّر المأساة خارج إيطاليا. تبيّن مورهيد كيف أفرزت الحرب الأهلية وتداعياتها أفضل ما في المجتمع الإيطالي وأسوأه، إذ كان حكم موسوليني الفاشي قد استمرّ عقدين من الزمن، وأمدّته الحرب بجرعة من الأوكسجين ليستمر في جنونه وتبعاته الكارثية.
الحرب أبرزت حميمية الشخصية الإيطالية وكرمها

إلا أنّ الحرب أبرزت حميمية الشخصية الإيطالية وكرمها، فكانت الشجاعة التي أظهرها الثوار، رجالاً ونساءً، مضرباً للمثل، كما بيّن الكتاب تعقيدات حسابات كل الأطراف على الجغرافيا الإيطالية: الألمان العازمون على منع تقدم الحلفاء مع استغلال الموارد الإيطالية، الفاشيون الذين يحاولون التشبث بالحكم بأي طريقة ممكنة، والحلفاء ممن كانت تطاردهم مخاوف بأن تدفع المقاومة إلى الشيوعية، ما يجعلهم يبخلون في دعمها، واعتبار المقاومين شركاء من الدرجة الثانية رغم بسالتهم وتهوّرهم أحياناً. تقول آدا في أحد فصول الكتاب إنّ الحرب علّمتهنّ معنى الصداقة، والقواسم المشتركة بين النساء، وما الذي يمكن أن يحققنه حين يعملن معاً: تسلّق أعالي الجبال لنقل الرسائل، النظر إلى الثلج المتراكم على الذرى، وصفاء الألوان وأطياف الأشجار المتغيرة، كما أنها عالجت صديقاتها من خيبات الأمل بعد التحرير، إذ كتبت سيلفيا في إحدى قصائدها: «جاءت الثورة بعد فوات الأوان/ وها هي الآن مفككة وفاسدة... وهكذا تبدأ عبوديتنا الجديدة/ أحراراً في البكاء والموت».
أنشأت آدا التي جمعت قصص المجموعة، مركزاً لتخليد ذكرى المقاومة، كما أهدت كتاباً ألّفته إلى صديقاتها قائلةً إن رابط التضامن بينهنّ لم يؤسَّس على «الموروث المشترك ولا على مفهوم الوطن أو العُرف الفكري»، وإنما على علاقة بسيطة تشعر كلّ منهن فيها بأنّ لها كلمتها في المعركة التي وصفها بييرو كالمانداري مؤرخ المقاومة الإيطالية في كتابه «رجال المقاومة ومدنها» (1955) بقوله: «لقد أزفت ساعة المقاومة التي نكون فيها رجالاً، ونموت ونحيا فيها رجالاً». سير النساء الأربع جملة اعتراضية تقول إنّ للنساء أيضاً نصيباً في تلك الساعة الأجمل من تاريخ الشعوب، حين تقاوم العين المخرز.